سكن الفقراء.. وسؤال الكرامة المعلّق بين الجدران

من نافذةٍ ضيّقة، تنظر امرأةٌ مسنّة إلى الشارع، لا بصر لها، ولكنها تبصر الحياة بقلبٍ أنهكته التجارب. تسمع همسات الجدران من حولها، تسألها: “أما زلتِ وحدكِ؟”

تربتُ الجدران على كتفها، لكنها لا تمنحها دفئًا، لأن الإيجار لا يُدفع بالعاطفة.

في هذا الوطن الكريم، الذي كرّم المحتاج، ورفع عن الضعفاء عبء السؤال، لا تزال بعض الشروط والإجراءات تسير على ساقٍ واحدة. تُطالب المسنّة الضعيفة، والأرملة المنهكة، والمكفوفة التي لا ترى النور، أن “تُثبت استقلالها بسكن خاص”، وكأنّ الكرامة تُقاس بعدد الجدران، لا بقيمة الإنسان.

أيُّ منطق هذا الذي يُطالب من راتبه 1100 ريالً أن يدفع منها 500 للسكن؟!

أيُ فلسفة في الإدارة ترى أن من فقدت بصرها، يمكنها أن تتنقل بين المكاتب، وتوقع العقود، وتتحمل همّ الفواتير والإيجارات؟!

وهل الاستقلال يعني العزلة؟ وهل الكرامة تُبنى بالإكراه على الوحدة؟!

الضمان الاجتماعي، في جوهره، ليس مجرد “راتب شهري”، بل هو عقد كرامة بين الدولة ومواطنيها، عقد كتب عليه: “لن تُهان في شيخوختك، ولن تُترك وحدك حين يثقل الزمان على ظهرك”.

لكن بعض اللوائح، التي لا ترى بأعين الرحمة، حولت هذا العقد إلى معاملةٍ إلكترونية جامدة، لا تسأل عن الدموع التي تسقط في الليل، ولا عن الخوف الذي يسكن قلوب العاجزين.

نعم، الدولة -أعزها الله- أرادت الخير، وهي لم ولن تبخل، لكن الأوامر السامية، حين تنزل من فوق، تمرّ أحيانًا عبر مكاتب لا تعرف من الفقر إلا اسمه، ولا من الضعف إلا ما كُتب في الأوراق.

وهنا، تتشوّه النوايا الطيّبة، حين تُترجم بلغةٍ لا تعرف الحنان.

يا من تصيغون الشروط في غرفٍ مكيفة،

ألا سألتم أنفسكم:

أين يسكن من لا بيت له، ولا عائل، ولا معين؟

وهل يجوز أن يكون شرط الدعم: أن “تستأجر بيتًا” من مالٍ لا يكفي للدواء؟

أليس في هذا قسوة لو وزنتها العدالة، لرجحت كفة البسطاء؟!

نقولها لا غضبًا، بل حزنًا:

الأنظمة العادلة، هي تلك التي تنحني أمام ضعف الإنسان، لا التي تطلب منه أن ينهض وهو لا يستطيع.

نحتاج اليوم، لا إلى “تعديل فقرة” فحسب، بل إلى إعادة تعريف مفهوم الضمان.

فالضمان ليس حبرًا في النظام، بل هو ضوء في آخر النفق، هو يدٌ تمتد لمن وقع، لا تسأله: “أين سكنك؟” بل تسأله: “كيف حالك؟”

أعيدوا النظر في شرط “السكن المستقل”،

فليس الاستقلال عنوانًا، بل هو اختيار،

وليس السكن جدارًا، بل هو أمان.

ولتكن فلسفة الضمان:

أن الكرامة لا تُشترى، لكنها تُصان…

والرحمة لا تُكتب، لكنها تُشعَر…

ومن طرق باب الحاجة، فلا تزيدوه بردًا فوق برده.

بقلم: مرزوق بن علي الزهراني

مرزوق بن علي الزهراني 🇸🇦

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى