هل يمكن للرحمة أن تصنع عدالة خالدة؟

جلس القاضي الأمريكي فرانك كابريو على منصة القضاء كما لم يجلس أحد من قبله. لم يكن مقعده عرشاً للرهبة، ولا مطرقة يده سيفاً مسلطاً على رقاب الناس، بل كان حضناً واسعاً يتسع للضعف الإنساني، ونبضاً يرى في المتهم إنساناً قبل أن يكون ملفاً قانونياً. لم يكن يقرأ الأوراق ببرود الإداري، بل كان يتلمس خلف كل مخالفة حكاية حياة، وخلف كل قضية وجهاً بشرياً يستحق أن يُسمع ويُقدَّر.

رحل فرانك كابريو عن عمر ناهز الثمانية والثمانين عاماً، بعد صراع مع السرطان، لكن سيرته ستبقى حيّة كنبضٍ أخلاقي يتجاوز حدود قاعة المحكمة التي عُرف فيها. لقد لقّبه الناس بـ«القاضي الرحيم» و«ألطف قاضٍ في العالم»، ليس لأنه تهاون في العدالة، بل لأنه فهم جوهرها العميق: أن العدالة بلا رحمة تتحول إلى آلة قاسية، وأن القانون بلا قلب يفقد معناه الإنساني.

كان كابريو يؤمن أن الإنسان ليس مجرد رقم في دفاتر الشرطة، ولا مجرد متهم يواجه عقوبة، بل هو كائن تسكنه ظروف قاسية، وأحلام مبتورة، وأقدار لا ترحم. وحين كان ينطق بأحكامه، كان يفعل ذلك بلغة لا تشبه لغة القوانين الجامدة، بل لغة الرحمة التي تحتضن، والابتسامة التي تداوي، والكلمة التي تفتح نافذة أمل في جدار اليأس.

لقد صنع كابريو من منصة القضاء مسرحاً للإنسانية. كان يستمع إلى الشاب العاطل عن العمل فلا يراه مجرماً، بل ضحية مجتمع لم ينصفه. ينظر إلى الأم الفقيرة التي تجاوزت إشارة المرور وهي تلهث بين همٍّ وهمّ، فيراها كأمٍ قبل أن يراها كمخالفة. كان يدرك أن القانون ليس نصاً منزلاً لا يُمس، بل روحٌ تبحث عن العدل في تفاصيل البشر، وأن الحكم العادل هو الذي يُنصف الإنسان لا الذي يُرضي الحرف.

رحل كابريو، لكن إرثه سيبقى كتعليمٍ للأجيال القادمة: أن العدالة بلا إنسانية مجرد سيفٍ أعمى، وأن القاضي الذي لا يعرف كيف ينحني لضعف الإنسان لا يعرف معنى القوة الحقيقية. في زمنٍ يزداد فيه القضاة قسوةً والأنظمة صلابة، جاء كابريو ليقول لنا إن اللطف ليس ضعفاً، وإن الرحمة ليست تنازلاً عن الحق، بل هي الحق في أن نعامل الإنسان كإنسان.

اليوم، ونحن نودّع هذا الرجل، نشعر أن العالم خسر قاضياً لم يكن يحاكم فقط، بل كان يعلّمنا درساً في كيف نرى بعضنا البعض. وكأن صوته سيظل يردد: “انظروا إلى الظروف قبل أن تحكموا، فالقانون بلا قلب لن يصنع عدلاً، بل قسوةً بأسماء مختلفة”.

لقد رحل جسداً، لكن صورته باقية: رجل يبتسم لمتهمٍ مرتعش، ويخفف بيديه الثقيلة عن قلبٍ منهك، ويكتب بإنسانيته صفحة نادرة في كتاب العدالة. وما أجمل أن يُذكر المرء بعد رحيله بأنه لم يكن فقط قاضياً، بل كان ضميراً حياً، قلباً مفتوحاً، وإنساناً جميلاً ترك العالم أكثر رحمةً مما وجده.

بقلم: مرزوق بن علي الزهراني

بقلم: مرزوق بن علي الزهراني 🇸🇦

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى