في حوار شامل مع “الحدث ميديا”: سفير إيران يكشف رؤية بلاده لمستقبل المنطقة ويشيد بموريتانيا قيادة وشعبا
السفير الإيراني يكشف عن آفاق الشراكة والاستثمار بين موريتانيا وإيران، ويعلق على التطورات الإقليمية الساخنة
في لحظة مفصلية من تاريخ المنطقة، وفي ظل ما يشهده العالم من تحولات متسارعة على المستويين الإقليمي والدولي، يسعدنا في الحدث ميديا أن نستضيف في هذا اللقاء الحصري سعادة سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية المعتمد لدى نواكشوط، السيد أبو جواد، لنسلط الضوء معه على جملة من القضايا المفصلية التي تهم البلدين الشقيقين، والمنطقة برمتها.
وقد تناول الحوار، برؤية استراتيجية ومن منظور واقعي، آفاق العلاقات الموريتانية الإيرانية التي تشهد في الآونة الأخيرة تطورا لافتا يعكس حرص الجانبين على تعزيز التعاون في مجالات متعددة، خاصة الاستثمار، والسياحة، والتعليم، والتبادل الثقافي. كما ناقشنا خلال اللقاء فرص التفاعل الثنائي في ضوء تحولات الاقتصاد الإقليمي، والتوجه الإيراني نحو مد جسور جديدة مع إفريقيا.
وعلى صعيد السياسة الدولية، لم يكن بالإمكان تجاهل تطورات الشرق الأوسط، لا سيما العدوان الإسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني، والرد الإيراني الأخير الذي بعث برسائل حاسمة إلى الداخل الإسرائيلي، وأعاد التوازن إلى المعادلة، في مشهد رأى فيه كثير من العرب والمسلمين برهانا عمليا على هشاشة الكيان الصهيوني حين يترك وحده دون مظلة أمريكية، وأنه، كما وصفه القرآن الكريم، “أهون من بيت العنكبوت”.
محاور عديدة، وأسئلة صريحة، وإجابات واضحة تتسم بالهدوء والوضوح والمباشرة… نترككم الآن مع النص الكامل لهذا اللقاء:
بداية، لو تفضلتم بتقديم أنفسكم للقارئ الموريتاني الكريم، من هو جواد أبو علي أكبر؟ ما أبرز المحطات التي مررتم بها في مسيرتكم الدبلوماسية؟
السفير:
يسعدني أن أعرف بنفسي للقارئ الموريتاني الكريم، أنا جواد أبو علي أكبر، من مواليد عام 1977، متزوج وأب لطفلين. أتشرف بخدمة بلادي منذ أكثر من اثنين وعشرين عاما في السلك الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
طوال هذه السنوات، تركزت خبرتي العملية بشكل خاص في إدارة شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي منطقة أعتبرها قلب التفاعلات الجيوسياسية في العالم، وقد قضيت فيها ما يزيد على عقدين من العمل المتواصل في ملفاتها المختلفة.
قبل اعتمادي سفيرا فوق العادة ومفوضا لدى الجمهورية الإسلامية الموريتانية، عملت في عدد من البعثات الدبلوماسية الإيرانية، من أبرزها السودان والمملكة المغربية، حيث ساهمت في تعزيز العلاقات الثنائية، والاطلاع المباشر على واقع المنطقة الإفريقية وتحدياتها وفرصها.
ويسعدني اليوم أن أكون في نواكشوط، ممثلا لبلد يولي أهمية كبيرة لتقوية علاقاته التاريخية مع الشعوب الإسلامية، وفي طليعتها الشقيقة موريتانيا، البلد العريق في حضارته، الغني بثقافته، الواعد بإمكانياته، والمتميز بموقعه الجيوستراتيجي في فضاء العالم الإسلامي وإفريقيا.
كيف تقيم مسار العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية الإسلامية الموريتانية؟
أين كانت؟ وأين أصبحت؟ وإلى أين يمكن أن تصل ؟
السفير :
العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية الإسلامية الموريتانية ليست وليدة اللحظة، بل تضرب بجذورها في أعماق التاريخ الحديث، وقد تأسست على قاعدة متينة من الاحترام المتبادل، والتقارب القيمي، والتضامن الإسلامي. فرغم البعد الجغرافي بين البلدين، إلا أن ما يجمعنا من وشائج دينية وثقافية وسياسية، يفوق حدود المسافات.
كلا البلدين جمهوريتان إسلاميتان مستقلتان في قرارهما السياسي، وتربطهما رؤية مشتركة تجاه قضايا الأمة، وعلى رأسها الرفض القاطع لنظام الهيمنة الدولية، والدعم المبدئي والثابت لقضية فلسطين باعتبارها القضية المركزية للعالم الإسلامي. هذا التلاقي الفكري والسياسي أسس لبيئة طبيعية لتعزيز التعاون الثنائي في مختلف المجالات.
منذ اعتمادي سفيرا للجمهورية الإسلامية الإيرانية لدى نواكشوط في يوليو 2023، شرفت بتلقي توجيهات واضحة من قيادتي العليا لبذل أقصى الجهود من أجل فتح آفاق جديدة للعلاقات مع موريتانيا. وبحمد الله، فقد شهدنا خلال هذه الفترة القصيرة نقلة نوعية في مسار التعاون، بفضل الإرادة السياسية الصادقة لدى فخامة رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، وفخامة الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي، وبمتابعة حثيثة من وزيري خارجية البلدين.
ومن أبرز المؤشرات على هذا التقدم:
رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي الموريتاني في طهران من قائم بالأعمال إلى سفير، وهو تطور يعكس جدية الشراكة السياسية.
إلغاء تأشيرة الدخول للمواطنين الموريتانيين إلى إيران، ما يعزز التبادل الشعبي والثقافي، ويسهل التعاون في مجالات السياحة والتعليم والعلاج.
مشاركة وفد اقتصادي موريتاني رفيع المستوى، برئاسة رئيس غرفة التجارة، في معرض “إيران إكسبو 2025″، وهو دليل على الاهتمام المتبادل بترقية العلاقات الاقتصادية والاستثمارية.
كما توجد حاليا عدة برامج ومشاريع تعاون قيد الدراسة والتنفيذ في قطاعات حيوية، ونعمل مع الجهات الموريتانية المختصة على تفعيلها بما يخدم مصالح الشعبين الشقيقين، ويرسخ نموذجا ناجحا من الشراكة جنوب-جنوب داخل الفضاء الإسلامي.
هل ترون أن هناك مجالات واعدة لمزيد من التعاون الثنائي في مجالات التجارة، الصناعة، الزراعة، أو غيرها؟
السفير:
بطبيعة الحال، نؤمن في الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن آفاق التعاون الاقتصادي مع موريتانيا واعدة للغاية، وتتطلب فقط إرادة مشتركة وتفعيل أدوات التنفيذ. فهناك طاقات وإمكانات هائلة لم تستثمر بعد بما يتناسب مع الإمكانات المتوفرة لدى البلدين.
من أبرز المشاريع الاستراتيجية التي نعمل على دراستها ومتابعتها إنشاء خط ملاحة بحري مباشر بين إيران وموريتانيا، بهدف تسهيل توريد السلع والبضائع الإيرانية إلى السوق الموريتاني بشكل مباشر ومنتظم، دون الحاجة إلى وسطاء أو موانئ وسيطة، ما يقلل الكلفة ويرفع من كفاءة التبادل التجاري.
البضائع الإيرانية اليوم تحظى بثقة متزايدة في عدة أسواق إفريقية، نظرا لما تتميز به من جودة تصنيع، وتنوع قطاعي، وأسعار تنافسية للغاية، سواء في المجال الصحي أو الصناعي أو الغذائي أو التكنولوجي. ونحن نعتقد أن السوق الموريتاني مؤهل لاستقبال هذه المنتجات بما ينعكس إيجابا على المستهلك المحلي، ويعزز التنوع في العرض.
وعلى الجانب الآخر، فإن موريتانيا، التي دخلت رسميا نادي الدول المصدرة للغاز، باتت تمتلك ورقة اقتصادية استراتيجية يمكن أن تشكل أرضية مهمة للتعاون في مجال الطاقة. وفي المقابل، فإن إيران تعد واحدة من أكبر منتجي ومصدري الغاز الطبيعي في العالم، وتتمتع بتجربة تقنية وميدانية واسعة في هذا القطاع.
انطلاقا من هذا، فإن التعاون في مجال الغاز وتكنولوجيا الطاقة يمثل فرصة حقيقية لكلا البلدين، سواء في مجال التكوين ونقل الخبرات، أو في تبادل الاستثمارات والتقنيات، أو حتى على مستوى الشراكة في مشاريع البنية التحتية ذات الصلة بالطاقة.
نحن متفائلون بأن المرحلة المقبلة ستشهد تحولات إيجابية في هذا الاتجاه، بما يرسخ الشراكة الاقتصادية الإيرانية الموريتانية على أسس مستدامة ومتكافئة.
كيف يمكن تعزيز التبادل التجاري والثقافي والعلمي بين البلدين؟ وهل هناك نية لفتح خطوط طيران مباشرة أو تسهيلات للسفر والتأشيرات بين الشعبين؟
السفير:
كما أشرت سابقا، فإن قرار إلغاء تأشيرات الدخول للمواطنين الموريتانيين إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم يكن مجرد إجراء بروتوكولي، بل جاء تعبيرا عمليا عن الرغبة الصادقة في تعزيز جسور التواصل بين الشعبين الشقيقين، وفتح آفاق أوسع للتعارف، والتبادل الثقافي، والتعاون في مختلف المجالات.
نحن نؤمن بأن التقارب الحقيقي بين الدول لا يبنى فقط عبر الاتفاقيات، بل يتجذر من خلال الحضور المتبادل، والتفاعل الإنساني، واكتشاف الشعوب لإمكانات بعضها البعض. من هنا، فإننا نعتبر الخطوة التالية الطبيعية في هذا المسار هي إطلاق خط ملاحة بحرية مباشر، وكذلك خط طيران مباشر بين إيران وموريتانيا، وهو ما سيساهم في تنشيط السياحة العلاجية والتعليمية، وتسهيل التبادل التجاري، وتكثيف الزيارات المتبادلة بين رجال الأعمال والمثقفين والطلاب.
ندرك أن تحقيق هذا الهدف يتطلب توافر جملة من الشروط الفنية واللوجستية، لكنه يظل أفقا استراتيجيا نعمل عليه بالتعاون مع السلطات الموريتانية الصديقة، ونتطلع لرؤيته يتحقق في المستقبل القريب إن شاء الله.
أما على الصعيد السياسي، فإن العلاقات بين بلدينا تشهد تطورا مستمرا وثابتا، إذ توجد قنوات اتصال فاعلة بين مسؤولي البلدين، والمشاركة المتبادلة في الفعاليات والاجتماعات الإقليمية والدولية تتم بشكل منتظم، مما يعكس استقرار العلاقة السياسية، ووجود إرادة عليا للحفاظ عليها وتنميتها.
ونحن في السفارة نعمل بشكل يومي على دعم هذه الدينامية الإيجابية، وتوسيع مجالات التعاون بما يخدم المصالح المشتركة، ويسهم في ترسيخ نموذج من العلاقات الإسلامية البينية المبنية على الاحترام والثقة والتكامل.
هل يعرف الإيرانيون موريتانيا جيدا؟ كيف يمكننا، من وجهة نظركم، إيصال صورة موريتانيا الحقيقية، تاريخا وحاضرا، في مجالات العلم والاقتصاد والسياحة والثقافة إلى الشعب الإيراني؟
السفير:
من الحقائق التي لا يمكن إنكارها، أن حجم المعرفة المتبادلة بين إيران وموريتانيا كان محدودا في السابق، ويرجع ذلك – كما تفضلتم – إلى عدة عوامل، أبرزها البعد الجغرافي، وكذلك غياب قنوات التواصل المباشر والمستمر بين المؤسستين الإعلامية والثقافية في البلدين.
لكن بحمد الله، بدأ هذا الواقع يتغير تدريجيا خلال السنوات الأخيرة، حيث نشهد اليوم حركة تواصل وتفاعل آخذة في التنامي بين الجانبين، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي. ومن مهامنا الأساسية في السفارة العمل على تقليص فجوة المعرفة، ومد جسور الفهم المتبادل بين الشعبين الموريتاني والإيراني.
وفي هذا الإطار، نولي في سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في نواكشوط أهمية خاصة لملف الإعلام والثقافة. حيث نحرص على نقل صورة دقيقة عن موريتانيا إلى الداخل الإيراني، والتعريف بإمكاناتها الحضارية والاقتصادية والثقافية، وما تزخر به من طاقات واعدة، وهو ما بدأ يؤتي ثماره، إذ أصبحت الأخبار المتعلقة بموريتانيا تحظى بمتابعة واهتمام من الجمهور الإيراني، ووسائل الإعلام في طهران بدأت تنظر لهذا البلد العزيز باعتباره شريكا مهما في غرب إفريقيا.
وفي المقابل، لاحظنا باهتمام ازدياد التغطية الإعلامية في موريتانيا للتطورات التي تشهدها إيران، وارتفاع الوعي العام بطبيعة الدولة الإيرانية، ومكانتها الجيوسياسية، وما تمتلكه من قدرات علمية وصناعية واقتصادية وثقافية. وهذا التبادل الإعلامي يشكل حجر الزاوية في بناء رأي عام مشترك أكثر وعيا ونضجا.
وأود هنا أن أؤكد بكل وضوح على الدور المحوري الذي تلعبه وسائل الإعلام في البلدين، فهي ليست مجرد ناقل للأخبار، بل شريك استراتيجي في تعزيز التقارب، وتشكيل الفهم المتبادل، وتبديد الصور النمطية، وفتح آفاق التعاون.
ومن هذا المنطلق، فإننا نرحب دوما بأي مبادرات للتبادل الإعلامي، وتنظيم الزيارات المشتركة للصحفيين، والتعاون بين الوكالات والهيئات الإعلامية، بما يخدم أهداف التقارب الحقيقي والفاعل بين الشعبين الشقيقين.
هل هناك اهتمام في إيران بتجارب علماء موريتانيا، وبموروثها الإسلامي والثقافي العريق؟
السفير:
لا شك أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تنظر بعين التقدير العميق إلى التراث العلمي والثقافي الإسلامي العريق الذي تزخر به موريتانيا. فهذا البلد الشقيق لم يكن فقط مستودعا للعلم، بل كان منارة مشعة في العالم الإسلامي، ومهدا لمدارس علمية وعلماء كبار أسهموا في نقل المعارف الإسلامية، وحفظها، ونشرها عبر الأجيال.
لقد كانت موريتانيا – ولا تزال – من أهم الحواضن الحضارية للإسلام في غرب إفريقيا، بما تحتضنه من مدن تاريخية مثل شنقيط ووادان وتيشيت وولاته، والتي تعد بحق مكتبات حية، وشواهد شاهقة على عمق الانتماء الإسلامي لهذا البلد الأصيل.
العلماء الموريتانيون لعبوا دورا محوريا في نشر الإسلام وتعليم العلوم الشرعية واللغوية، سواء في بلادهم أو خارجها، وأسهموا في تخريج أجيال من الفقهاء والمفسرين والأدباء الذين تركوا بصمتهم في الوجدان الإسلامي المشترك. وهذا الرصيد الفكري والروحي يعد من أغنى الكنوز التي يمكن أن تستثمر في تعزيز العلاقات الثقافية بين الشعبين.
لقد سعدت شخصيا بزيارة مدينة شنقيط التاريخية، والمشاركة في فعاليات مهرجان “مدینة التراث” الثقافي، وكانت تجربة ثرية فتحت أمامي آفاقا جديدة لفهم العمق الحضاري لموريتانيا. وقفت هناك أمام صفحات من التاريخ الناصع، وتأملت في تلك الروح الإسلامية الأصيلة التي تسكن تفاصيل المعمار، والمخطوط، والمدرسة، والمحراب.
ونحن في الجمهورية الإسلامية الإيرانية نولي أهمية كبيرة لهذا البعد الثقافي، ونؤمن أن التقارب الحضاري هو أساس أي تعاون مستدام. من هنا، فإننا حريصون على تعزيز المبادلات الثقافية، وتنظيم الندوات المشتركة، وتبادل الوفود العلمية والدينية، وتشجيع الترجمة والنشر المشترك بين مراكز الفكر والبحث في البلدين.
ذلك أن الثقافة الإسلامية ليست إرثا ساكنا، بل رسالة حية تجمعنا، وتمنحنا فرصة لصياغة مستقبل مشترك أكثر وعيا وتجذرا.
كيف قرأتم تفاعل الشعب الموريتاني وقيادته مع الرد الإيراني الأخير على العدوان الصهيوني؟
السفير:
لقد كان لموقف الحكومة والشعب الموريتاني من العدوان الغادر الذي شنه الكيان الصهيوني على الجمهورية الإسلامية الإيرانية أثر بالغ في نفوسنا، وتقدير عميق لدى قيادتنا وشعبنا. فقد عبرت موريتانيا – حكومة وشعبا ونخبا سياسية – عن موقف مشرف يعكس أصالة هذا البلد، وارتباطه العميق بمبادئ الحق والعدالة والكرامة الإسلامية.
إن إصدار الجمهورية الإسلامية الموريتانية بيانا رسميا واضحا منذ الساعات الأولى للاعتداء، وما أعقبه من دور فاعل وموقف متقدم في المحافل الدولية، ولا سيما خلال اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية في إسطنبول، لم يكن مجرد تضامن دبلوماسي عابر، بل تعبير صادق عن انتماء موريتانيا لصفوف الأمة، ورفضها القاطع لأي عدوان على دولة مسلمة مستقلة ذات سيادة.
وإلى جانب الموقف الرسمي، لا يسعني إلا أن أعبر عن تقديرنا الكبير للمواقف الصادرة عن مختلف الأحزاب السياسية الموريتانية، التي أجمعت على إدانة العدوان، وانتصرت لكرامة الأمة وسيادتها، في مشهد يعكس وحدة الضمير الوطني الموريتاني حين يتعلق الأمر بالكرامة الإسلامية الجامعة.
أما الشعب الموريتاني الأصيل، فقد أثبت – كما عهدناه – أنه في طليعة الشعوب الحية المناهضة للظلم، والمناصرة لقضايا الحق في فلسطين وسائر أرجاء العالم الإسلامي. وخلال العدوان الذي استمر اثني عشر يوما، عبر الشعب الموريتاني، بمختلف شرائحه، عن تضامنه الثابت مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من خلال الوقفات التضامنية أمام سفارتنا في نواكشوط، والتجمعات الشعبية، والبيانات النخبوية، والمواقف الشعبية العفوية التي لامست قلوبنا جميعا.
إن هذا التفاعل لم يكن مجرد مجاملة دبلوماسية، بل موقف ينبع من فهم عميق لما تمثله الجمهورية الإسلامية الإيرانية من رمزية في مقاومة الهيمنة الصهيونية، ودفاعها الدائم عن قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
وإننا نعتبر هذا الموقف النبيل من موريتانيا تأكيدا على روابط الأخوة الإسلامية الراسخة بين بلدينا، وتمهيدا لتقارب أعمق على مستوى المواقف والرؤى والسياسات.
برأيكم، ما الرسائل التي أوصلها الرد الإيراني القوي للكيان الصهيوني وللعالم؟
السفير:
لقد حمل الرد الإيراني القوي والحاسم على عدوان الكيان الصهيوني رسائل استراتيجية عميقة وذات أبعاد متعددة، لم تقتصر على توجيهها إلى الكيان المعتدي فحسب، بل تعدت ذلك لتصل إلى المجتمع الدولي برمته، معلنة عن مرحلة جديدة في معادلة الردع الإقليمي والسيادة الوطنية.
أولا، أكد هذا الرد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تسمح مطلقا بمرور أي عدوان دون رد رادع، وأنها، انطلاقا من مسؤوليتها الوطنية والدستورية، ستدافع عن سيادتها وأمنها وشعبها بكل ما تملك من قوة وإرادة. لقد كانت رسالة واضحة ومباشرة للكيان الصهيوني بأن الزمن الذي كان فيه يستطيع العدوان والإفلات من العقاب قد ولى إلى غير رجعة، وأن أي انتهاك لحرمة إيران سيقابل برد متناسب وقوي، يحمل في طياته الحساب والتكلفة.
ثانيا، وجهت هذه العملية رسالة للمجتمع الدولي فحواها أن الأمن والاستقرار في المنطقة لا يبنى على الاحتلال والهيمنة، بل على احترام حقوق الشعوب، ووقف السياسات العدوانية والأحادية. لقد كشفت أن السكوت الدولي على جرائم الكيان الصهيوني، سواء في فلسطين أو تجاه دول ذات سيادة، لم يعد مقبولا في منطق الدول الحية المستقلة.
ثالثا، حمل الرد الإيراني بعدا شعبيا عابرا للحدود، إذ أكد وحدة الإرادة الإقليمية في مواجهة الاحتلال والعدوان، وكان مصدر إلهام للشعوب الحرة التي تناضل في فلسطين، ولبنان، واليمن، والعراق، وكل مكان، من أجل العدالة والكرامة والتحرر من نير الاستكبار والاستعمار الجديد.
رابعا، وربما الأهم، أن هذه الضربة كشفت هشاشة الكيان الصهيوني الذي طالما صور في الإعلام الغربي كقوة لا تقهر. لقد انهارت تلك الصورة المصطنعة تحت وقع الرد، وبات واضحا أن هذا الكيان لا يصمد لحظة دون مظلة الدعم الأمريكي المباشر، ما يصدق فيه قول الله تعالى: “إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت”.
وبالمجمل، فقد أظهرت العملية أن إيران لا تبحث عن الحرب، لكنها ترفض الخنوع، وتملك الإرادة والقدرة على الدفاع عن أمنها وكرامتها. لقد كانت رسالة قوة وسيادة واستقلال ووفاء لنهج المقاومة والعدالة، تقول للعدو وللعالم: إن العبث بكرامة الشعوب، وخاصة الشعب الإيراني، سيكون له ثمن باهظ.
كيف استقبل الشعب الإيراني، داخل إيران وخارجها، ذلك الرد؟ وهل كان له أثر نفسي أو تعبوي؟
السفير:
لقد استقبل الشعب الإيراني الرد الحازم والسريع الذي نفذته الجمهورية الإسلامية الإيرانية على عدوان الكيان الصهيوني بفخر واعتزاز بالغين، إذ رآه تجسيدا ملموسا لهيبة الدولة، وصلابة موقفها في الدفاع عن سيادتها الوطنية، وكرامة شعبها، واستقلال قرارها السياسي والعسكري.
كان هذا الرد بمثابة إعلان سيادي جديد مفاده أن إيران، كدولة ذات عمق حضاري واستراتيجي، لا تقبل الإهانة ولا تسمح بالتهديد تحت أي ظرف، ومن أي جهة كانت. فقد أكد للعالم أن سيادة الجمهورية الإسلامية ليست محل مساومة، وأن المساس بها يترتب عليه حساب مكلف ومباشر.
داخليا، انعكس هذا الرد بشكل بالغ الإيجابية على الوعي الجمعي للشعب الإيراني، حيث عزز من روح الوحدة الوطنية، ورفع معنويات المواطنين، وخاصة فئة الشباب، التي رأت في هذا الموقف مثالا حيا على الإرادة المستقلة، والقدرة الفعلية على الردع دون ارتهان أو تبعية. لقد شعر المواطن الإيراني بأن كرامته مصانة، وصوته محترم، وأنه ينتمي لدولة لا تفرط في شبر من سيادتها ولا تتردد في الدفاع عنه.
أما على مستوى الجاليات الإيرانية في الخارج، فقد كان التضامن واضحا وفاعلا، حيث عبر الإيرانيون في مختلف الدول عن دعمهم الكامل لموقف بلادهم، وشاركوا في وقفات وفعاليات تعبر عن تماسكهم مع وطنهم الأم، واعتزازهم بخياراته السياسية المستقلة.
وفي المجمل، فإن الأثر النفسي والمعنوي لهذا الرد الاستراتيجي كان كبيرا وعميقا؛ فقد أعاد الثقة الشعبية بقدرات الدولة ومؤسساتها الدفاعية والأمنية، ورسخ التلاحم بين القيادة والشعب، وأثبت أن الجبهة الداخلية الإيرانية متماسكة، وواعية، وجاهزة دائما للوقوف صفا واحدا في وجه أي تهديد خارجي.
ولعل من أهم الرسائل التي خرج بها العالم من هذه العملية أن إيران ليست فقط قادرة على الرد، بل إن شعبها يلتف حول هذا الرد باعتباره تعبيرا عن كرامة وطنية لا تقبل التهاون، ولا تنكسر أمام الغطرسة أو الترهيب.
هل تعتقدون أن تحرير المسجد الأقصى بات أقرب من أي وقت مضى؟
السفير:
إن تحرير المسجد الأقصى بات اليوم أقرب من أي وقت مضى. فالمعطيات الراهنة في المنطقة، وعلى امتداد محور المقاومة، تشير بوضوح إلى أن ميزان القوى آخذ في التبدل تدريجيا. الكيان الصهيوني، الذي ظل يصوّر طويلا كقوة لا تقهر، يعيش اليوم أزمات داخلية خانقة، وتآكلا متسارعا في قدراته العسكرية، وانكشافا فاضحا على المستويين السياسي والمعنوي.
في المقابل، تزداد إرادة الشعوب الإسلامية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، صلابة وتماسكا يوما بعد يوم. وقد أكدت الردود الحازمة من محور المقاومة ـ وعلى رأسه الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ على الاعتداءات والتهديدات الأخيرة، أن زمن الصمت قد ولى، وأن عصر الهيمنة والاعتداء دون رد قد انتهى.
إن شعوب هذه المنطقة، كما أحرار العالم، لم يعودوا مستعدين لتقبل استمرار احتلال المقدسات الإسلامية، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، أو السكوت عن تدنيسه المتكرر.
يضاف إلى ذلك، أن موجات التضامن الواسعة وغير المسبوقة من الشعوب الإسلامية مع قضية فلسطين، والوعي المتزايد على مستوى العالم بفظاعة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ظلم وقمع، والتراجع المتسارع في شرعية الكيان الصهيوني داخل المحافل الدولية، كلها مؤشرات دامغة على أن تحرير القدس الشريف والمسجد الأقصى لم يعد مجرد حلم، بل صار حقيقة تلوح في الأفق، أقرب من أي وقت مضى.
ومن منظورنا، فإن تحرير المسجد الأقصى لا يقتصر على كونه هدفا دينيا أو قوميا فحسب، بل هو واجب أخلاقي وإنساني، ينبغي على كل الشعوب الحرة في هذا العالم أن تعمل من أجل تحقيقه، بكل ما أوتيت من قوة وعزم وإمكانات.
هل ترون أن الكيان الصهيوني ارتكب خطأً استراتيجيا عندما هاجم إيران؟ وهل منعته أمريكا من تلقي المزيد من الردود؟
السفير:
لقد ارتكب الكيان الصهيوني خطأً استراتيجيا جسيما حين أقدم على تنفيذ عدوانه الغادر ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، واهما أنه قادر على كسر قواعد الاشتباك، أو فرض معادلات جديدة تخدم أطماعه في المنطقة. إلا أن الرد الإيراني، الذي جاء سريعا، حاسما، ودقيقا، أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن إيران ليست فقط قادرة على حماية سيادتها، بل تملك كذلك الإرادة والجهوزية لردع أي عدوان يهدد أمنها واستقرارها.
لم يكن هذا العدوان مجرد هجوم عسكري عابر، بل كان محاولة متهورة للتغطية على عمق الأزمة السياسية والأمنية التي يتخبط فيها الكيان الصهيوني، كما كان رهانا خاسرا على استنزاف صبر الجمهورية الإسلامية. إلا أن الرد الإيراني بعث برسالة واضحة وقاطعة: إن أمن إيران خط أحمر، وإن أي اعتداء لن يمر دون رد مباشر، مؤلم، ومتوازن.
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فرغم تحالفها الاستراتيجي ودعمها التقليدي وغير المشروط للكيان الصهيوني، فقد بدا جليا أنها لم تكن ترغب في الانزلاق إلى تصعيد مفتوح بعد الرد الإيراني، إذ تدرك تماما أن استمرار المواجهة كان سيقود إلى انفجار إقليمي واسع، لا يمكن لأحد التنبؤ بتداعياته أو احتوائه. لقد لجأت واشنطن إلى قنوات التهدئة والدبلوماسية، وهو ما يؤكد أنها فوجئت بقوة الرد الإيراني وبتغير معادلات الردع في المنطقة.
وبالتالي، فإن الرسالة التي تلقاها العالم أجمع، بوضوح تام، هي أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تعد تقبل منطق الاستفزاز دون عقاب، وأن سيادة الدول ليست مشاعا، وأن زمن التغول على أمن الشعوب باسم التفوق العسكري قد ولى بلا رجعة. لقد بات من المؤكد أن الكيان الصهيوني، مهما تذاكى أو توهم، لن يتمكن من فرض إرادته على شعوب المنطقة، ولن ينجو بعد اليوم من تبعات أفعاله الطائشة
نود منكم تقديم صورة شاملة للقارئ الموريتاني عن إيران: ماضيها وحاضرها، فرص الاستثمار، السياحة، الثقافة، الفن، الرياضة، الصناعة، والتكنولوجيا.
السفير:
إيران، هذه الأرض العريقة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، لم تكن يوما كيانا عابرا على هامش الحضارات، بل كانت ولا تزال قلبا نابضا في مسيرة الإنسانية. لقد أنجبت إمبراطوريات عظيمة كالأخمينيين، والساسانيين، والصفويين، وامتد إشعاعها الحضاري ليكون أحد ركائز الحضارة الإسلامية والإنسانية بأسرها. واليوم، تواصل الجمهورية الإسلامية الإيرانية مسيرتها كدولة مستقلة، تعتمد على قدراتها الذاتية، وتحقق تقدما ملحوظا في مختلف الميادين.
تتمتع إيران بموارد طبيعية هائلة، تشمل النفط والغاز، إضافة إلى ثروات معدنية كالنحاس، والزنك، وخام الحديد. كما تحتضن إمكانيات واسعة في مجالات الزراعة، ومصائد الأسماك، والصناعات التحويلية، والطاقة المتجددة، والنقل، وتقنيات المعلومات، ما يجعلها قوة إقليمية متكاملة العناصر.
وفي السياحة، تأسر إيران الزائر بجمالها وتنوعها: أكثر من عشرين موقعا مسجلا في قائمة التراث العالمي لليونسكو، ومدن خالدة مثل أصفهان، وشيراز، ويزد، ومشهد، وتبريز، تنبض بروعة العمارة الإسلامية وفنون الحضارة الشرقية. أما طبيعتها الساحرة، فهي لوحة ربانية تجمع بين الجبال والسهول، الغابات والصحارى، والسواحل الممتدة على الخليج وبحر قزوين، مما يمنح السائح تجربة لا تنسى في أرض الفصول الأربعة.
وتعد إيران منارة ثقافية في ميادين الشعر، والأدب، والموسيقى، والسينما، والصناعات اليدوية. ويكفي أن نذكر شعراء كالفردوسي، وسعدي، وحافظ، وجلال الدين الرومي، لندرك حجم الإسهام الحضاري الذي قدمته إيران للعالم. هؤلاء ليسوا فقط رموزا وطنية، بل سفراء أبديون لقيم الجمال والحكمة والروحانية. وفي السينما، تتألق إيران عالميا بإنتاجها الراقي، وحضورها اللافت في كبرى المهرجانات الدولية.
أما الشباب الإيراني، فهو قلب الأمل ومحرك التقدم. وقد وفرت الدولة الإيرانية، في مختلف المجالات الرياضية، بيئة خصبة لصقل المواهب، وتحقيق الإنجازات، بما في ذلك مشاركة النساء، اللواتي أثبتن جدارتهن في المحافل الرياضية الدولية، ورفعن راية بلدهن بجدارة.
وفي ميدان العلوم والتكنولوجيا، أضحت إيران من الدول الرائدة إقليميا، بفضل إنجازاتها الكبيرة في مجالات النانو، والبيوتكنولوجيا، والطب، والصناعات الدفاعية، والطاقة النووية السلمية، والفضاء. ويحتضن هذا البلد أكثر من 50 حديقة علمية وتقنية، ومئات المراكز البحثية، وجامعات مرموقة، تشكل مجتمعة قاعدة راسخة لنهضة علمية شاملة.
إن إيران اليوم، وهي تستند إلى إرثها الحضاري، وطاقات شعبها، واستقلال قرارها، لا تتقدم بثبات نحو المستقبل فحسب، بل تمد يدها أيضا نحو التعاون المثمر مع جميع الشعوب الحرة في العالم، وعلى رأسها الجمهورية الإسلامية الموريتانية الشقيقة. فنحن نرى في إيران وطنا ليس للإيرانيين وحدهم، بل ملاذا لكل أصدقاء الحرية، ومحبي الكرامة، والساعين إلى عالم أكثر عدلا وتوازنا، حيث تحترم الهويات وتصان السيادات.
ما الذي يميز النموذج الإيراني في التنمية والصمود؟ وما هي المجالات التي يمكن لموريتانيا أن تستفيد منها؟
السفير:
إن النموذج الإيراني في التنمية والصمود يعد من أكثر النماذج تفردا في المنطقة، وذلك لاعتماده على جملة من الركائز التي تمزجه بالهوية، وتعزز قدرته على التكيف ومواجهة التحديات. ويمكن تلخيص أبرز هذه الركائز في النقاط التالية:
أولا: الاعتماد على القدرات الذاتية
رغم ما فرض على إيران من حصار اقتصادي جائر امتد لعقود، فإنها تمكنت من شق طريقها بثبات نحو التقدم، معتمدة على ثرواتها البشرية والعلمية والطبيعية. هذا الاعتماد لم يكن خيارا فقط، بل تحول إلى مبدأ أصيل يشكل أحد أعمدة الهوية الاقتصادية والسياسية للجمهورية الإسلامية.
ثانيا: الربط الوثيق بين العلم والتطبيق العملي
استثمرت إيران، على مدى السنوات الماضية، في تعزيز منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، وأثمرت هذه الجهود عن تقدم ملموس في مختلف القطاعات: من الصناعات الدوائية والزراعية إلى الطاقة والفضاء والدفاع. كما أن إنشاء مدن العلوم والتكنولوجيا، التي تحتضن مئات المشاريع البحثية بمشاركة الشباب الجامعي، يعد أحد مظاهر هذه النهضة العلمية.
ثالثا: التنمية المتوازنة القائمة على العدالة
ينطلق النموذج الإيراني من رؤية عادلة تسعى إلى تقليص الفجوة التنموية بين المناطق، من خلال توسيع البنى التحتية في القرى والمناطق المحرومة، وتمكين الفئات الهشة، بما يضمن تنمية شاملة لا تقتصر على المراكز الحضرية فحسب.
وفيما يتعلق بفرص التعاون مع الجمهورية الإسلامية الموريتانية الشقيقة، فإن هناك مجالات واعدة يمكن لإيران أن تسهم فيها بما تملكه من خبرة وتجربة:
الزراعة والصيد البحري: لدى إيران خبرات متقدمة في مجال الري بالتقنيات الحديثة، والزراعة المقاومة للجفاف، وتحويل المنتجات الزراعية، وكلها مجالات تكتسي أهمية خاصة في السياق الموريتاني.
تطوير التعليم العالي والتقني: الجامعات الإيرانية، بما تملكه من كوادر وتجهيزات، مستعدة لاستقبال الطلاب الموريتانيين في مجالات الطب، والهندسة، والعلوم، فضلا عن إتاحة منح لدراسة اللغة الفارسية وتخصصات أخرى.
الطاقات المتجددة والبنى التحتية: التعاون في الطاقة الشمسية، وإدارة المياه، وبناء الطرق والمستشفيات، يشكل أحد أبرز مجالات الشراكة الممكنة، خاصة في ظل التحديات البيئية والاقتصادية المشتركة.
الصناعة الدوائية والرعاية الصحية: حققت إيران اكتفاء ذاتيا في صناعة الأدوية بنسبة تقارب 85٪، وتملك القدرة على تزويد موريتانيا بأدوية عالية الجودة وبأسعار مناسبة، مع إمكانية نقل المعرفة التقنية لتطوير هذا القطاع محليا.
وخلاصة القول، فإن النموذج الإيراني يقدم للدول الطامحة إلى تنمية مستقلة ومستدامة تجربة ملهمة تبرز أهمية التمسك بالهوية الوطنية، وتوظيف الموارد الذاتية. كما أنه يفتح آفاقا واسعة للتعاون الثنائي بين إيران وموريتانيا، على أساس الأخوة، وتبادل المنفعة، والمصالح المشتركة.
ما هو حلم إيران في الشرق الأوسط؟
السفير:
تقوم رؤية الجمهورية الإسلامية الإيرانية لمنطقة الشرق الأوسط على مبدأ أساسي ثابت: عدم التدخل الأجنبي في شؤون شعوب المنطقة، وضرورة أن تبنى السياسات الإقليمية على أساس الاحترام المتبادل، والتعاون المشترك، وحفظ السيادة الوطنية لكل دولة.
لقد أظهرت العقود الماضية، بما لا يدع مجالا للشك، أن التدخلات الخارجية كانت السبب الرئيس في زعزعة الأمن، ونهب الموارد، وإشعال الحروب، وإدامة الانقسامات. ولذلك، فإن إيران ترى أن السبيل الوحيد لتحقيق السلام الحقيقي في المنطقة يكمن في التفاهم والتعاون بين الدول الإقليمية نفسها، لا من خلال وكلاء أجانب أو قوى تسعى لتحقيق مصالحها على حساب استقرارنا الجماعي.
كما تؤمن إيران إيمانا راسخا بأن الأمن لا يتحقق بالقوة وحدها، بل من خلال العدالة، واحترام حقوق الشعوب، ورفض الهيمنة. ومن هذا المنطلق، تدعم الجمهورية الإسلامية حركات المقاومة التي تقف في وجه الاحتلال والعدوان، وتناصر قضايا الشعوب المظلومة، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الذي يعد صموده مصدر إلهام لكل دعاة التحرر في العالم.
وتطمح إيران إلى شرق أوسط جديد، تسوده الشراكة الاقتصادية، والتقارب الثقافي، والتعاون البناء، خال من النزاعات الطائفية، والفتن العرقية، والانقسامات المصطنعة. فالمنطقة تستحق أن تتحول إلى فضاء آمن ومزدهر، تحترم فيه الكرامة الإنسانية، وتصان فيه الهويات، وتوفر فيه الحياة الكريمة لكل أبنائها.
وفي هذا السياق، تولي إيران أهمية قصوى للحوار بين الدول الإسلامية والعربية، باعتباره أداة فاعلة لتجاوز الخلافات، وبناء جسور الثقة، والتصدي للتحديات المشتركة مثل الإرهاب، والتطرف، والفقر، والتخلف.
وباختصار، فإن الحلم الإيراني للشرق الأوسط ليس حلما توسعيا أو أحاديا، بل هو حلم جامع: منطقة مستقرة وآمنة، تحفظ سيادة دولها، وتكرم شعوبها، وتتجه بثقة نحو مستقبل من التنمية، والعدالة، والازدهار المشترك.
كيف تقرؤون مستقبل العلاقات الإيرانية العربية، والخليجية تحديدا؟
السفير:
إن مستقبل العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والعالم العربي، ولا سيما دول الخليج الفارسي، يبشر بإمكانات واسعة للتعاون والحوار البناء، على أسس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
ورغم التحديات والاضطرابات التي عصفت بالمنطقة خلال العقود الماضية، فإن ما نشهده اليوم من تحولات إقليمية يعكس رغبة متنامية لدى جميع الأطراف في طي صفحة الخلافات، والتوجه نحو بناء علاقات متوازنة ومستقرة تعلي من شأن الأمن والتنمية، وتحافظ على سيادة الدول واستقلال قرارها.
تسعى إيران إلى تعزيز أواصر العلاقة مع جيرانها في الخليج الفارسی والعالم العربي، انطلاقا من رؤية قائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتغليب منطق التعاون على التصعيد، والانفتاح على شراكات اقتصادية وثقافية وسياسية تعود بالنفع على الجميع. فنحن نؤمن أن الحوار الصادق والصداقة بين دول المنطقة هو السبيل الأمثل لتحقيق آمال شعوبنا، والتصدي للتحديات المشتركة، سواء في مجال الأمن أو التنمية أو مواجهة التدخلات الخارجية.
إن المستقبل يزخر بفرص إيجابية لتعميق العلاقات مع دول الخليج الفارسي والعالم العربي عموما، بشرط توافر الإرادة السياسية، واعتماد منهج الحوار والانفتاح بعيدا عن الإملاءات أو الاصطفافات. وقد بات واضحا لكل ذي بصيرة أن الخطر الحقيقي الذي يهدد أمن منطقتنا واستقرارها لا يكمن داخل حدودها، بل يأتي من الخارج، ومن الكيان الصهيوني، الذي طالما عمل على بث الفتن، وتمزيق الصفوف، وزرع بذور العداء بين الشعوب الشقيقة.
إن إيران تمد يدها بصدق إلى كل من يؤمن بأن مستقبل المنطقة يجب أن يبنى بأيدي أبنائها، بعيدا عن أجندات الهيمنة والاحتراب. فبالحوار والتفاهم، يمكن أن نرسم معا مستقبلا تزدهر فيه منطقتنا، وتتآلف فيه الشعوب، وتتحقق فيه الكرامة والسلام.
كيف تنظر إيران اليوم إلى سوريا بعد الأسد؟ ولبنان بعد حسن نصر الله؟ واليمن مع الحوثي أو دونه؟ والعراق بالحشد الشعبي أو بدونه؟
السفير:
تؤمن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأن الاستقرار في المنطقة لا يتحقق إلا من خلال احترام سيادة الدول ووحدة شعوبها، وانطلاقا من هذا المبدأ، فإن الموقف الإيراني الرسمي تجاه سوريا لطالما كان ثابتا وواضحا: دعم وحدة الأراضي السورية، والحفاظ على استقرارها السياسي، ومساندة المسار السياسي القائم على إرادة الشعب السوري دون تدخلات خارجية.
أما فيما يخص لبنان بعد استشهاد السيد حسن نصرالله (رحمه الله)، فإن نظرة إيران لا تختزل في الأشخاص، مهما عظم دورهم، بل تقوم على المبادئ الراسخة، والبنى التنظيمية القوية للمقاومة، والعلاقات المتجذرة مع الشعب اللبناني والتيارات المؤمنة بخيار المقاومة. ونحن نقدر الدور التاريخي الفذ والقيادة الكاريزمية التي قدمها السيد نصرالله في ترسيخ منهج المقاومة وتثبيت معادلات الردع، إلا أننا نؤمن في ذات الوقت أن المقاومة في لبنان هي منظومة شعبية متكاملة، تمتلك من الصلابة والتنظيم ما يجعلها قادرة على الاستمرار والتطور، بعيدا عن ارتباطها بشخص واحد.
وإيران ستواصل دعمها الصادق للمقاومة اللبنانية، إيمانا منها بأنها الضمانة الحقيقية لحماية سيادة لبنان، وصون أمنه، وردع الكيان الصهيوني الذي لا يزال يشكل تهديدا وجوديا لشعوب المنطقة. ونحن على يقين أن الحکومه و الشعب اللبناني، بما يملكه من وعي وتجربة تاريخية، سيثبت مجددا قدرته على تجاوز هذه المرحلة الدقيقة، ومواصلة مسيرة المقاومة بثبات وثقة.
أما اليمن، فتنظر إليه إيران من زاوية استراتيجية، إنسانية، وسياسية، وترى في دعم هذا الشعب المظلوم واجبا أخلاقيا في مواجهة عدوان سافر وحصار جائر. فالشعب اليمني، رغم ما يعانيه من حرب وحصار وتدمير، يمثل اليوم رمزا للصمود العربي والإسلامي، وصوتا عاليا في مناصرة قضية فلسطين، ومقاومة الغطرسة الصهيونية–الأمريكية. لذلك، فإن الدعم الإيراني لليمن ينبع من الإيمان بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض محاولات الإخضاع والسيطرة الخارجية.
أما بالنسبة لـ العراق الشقيق، فإن علاقته مع الجمهورية الإسلامية علاقة أخوّة وجوار، وامتداد حضاري وتاريخي عميق. تنظر إيران إلى العراق بوصفه دولة محورية في التوازن الإقليمي، وركيزة أساسية في مواجهة الإرهاب والتدخلات الأجنبية. وتؤمن بأن عراقا حرّا، قويّا، مستقرّا، وذو سيادة تامة، هو مكسب ليس فقط لشعبه، بل للمنطقة بأسرها. وفي هذا السياق، ترى إيران أن دور “الحشد الشعبي” هو دور شرعي وشعبي نابع من إرادة وطنية، وقد أثبت في محطات عديدة أنه ركن أساسي في منظومة الدفاع الوطني ضد الإرهاب والانفلات الأمني.
وباختصار، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تؤكد على رؤيتها المبدئية والداعمة لوحدة الشعوب، وحقها في تقرير مصيرها، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي. إنها رؤية تنبع من الالتزام بالسيادة، والعدل، والمقاومة، وتسعى إلى منطقة مستقرة، حرة، وشعوبها متمكنة من صياغة مستقبلها بكرامة وسيادة.
كيف يمكن تحقيق وحدة حقيقية رغم اختلاف المذاهب؟ وهل لدى إيران مبادرات عملية في هذا المجال؟
إن تحقيق الوحدة الحقيقية بين الدول الإسلامية، رغم اختلافاتها المذهبية والفكرية، ليس أمرا مستحيلا، بل هو هدف واقعي وممكن، شريطة أن يبنى على إرادة صادقة، وجهود متواصلة، ورؤية ترتكز على المشترك وتعلي من شأن الحوار والتفاهم.
فالانطلاقة الحقيقية نحو هذه الوحدة تبدأ من التركيز على القواسم الكبرى التي تجمع المسلمين، من عقيدة التوحيد، والقيم الأخلاقية، والتاريخ الإسلامي المشترك، والهموم المصيرية المشتركة، مع الاحترام الكامل للتنوع المذهبي والفكري الذي كان وسيبقى جزءا من حيوية الأمة الإسلامية، وثرائها الثقافي.
تؤمن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأن الوحدة لا تفرض، بل تبنى بالحوار والتلاقي والاحترام المتبادل، ولهذا فإنها تدعم كل مبادرة تهدف إلى تعزيز التقارب بين المذاهب الإسلامية، وتفتح أبوابها أمام الاجتماعات العلمية المشتركة، والملتقيات الفكرية، ومؤتمرات العلماء، التي تهدف إلى بناء جسور الفهم والتعاون، ومواجهة محاولات الشقاق والفتنة.
كما تشجع إيران على إطلاق ورش عمل ومبادرات فكرية وثقافية تركز على نشر القيم الإسلامية الجامعة، كالتكافل، والعدل، والرحمة، والتعاون، بما يسهم في تعزيز التضامن الإسلامي، وتحصين المجتمعات من الفكر المتطرف، والانقسام الطائفي.
ومن خلال هذه الجهود، تسعى إيران إلى تجاوز الخلافات الهامشية، والتوجه نحو الأهداف الكبرى التي توحد الأمة، وفي مقدّمتها: مقاومة الظلم والاستكبار، الدفاع عن الحقوق الإسلامية، نشر العدالة الاجتماعية، ودعم القضية الفلسطينية بوصفها عنوانا جامعا لوحدة الضمير الإسلامي.
وباختصار، فإن إيران ترى في الحوار والتفاهم والتعددية المحترمة الطريق الوحيد نحو الوحدة الإسلامية الحقيقية، وتؤكد استعدادها الدائم لدعم كل جهد مخلص يخدم هذا الهدف النبيل، ويقرب بين القلوب قبل الأنظمة، لبناء أمة متماسكة، واعية، تنهض بمسؤولياتها في هذا العالم.
منذ اعتمادكم سفيرا في نواكشوط، كيف وجدتم موريتانيا؟ ما أبرز ملامحها التي لفتت انتباهكم؟
السفير :
منذ بدء عملي كسفير لجمهورية إيران الإسلامية في نواكشوط، كانت موريتانيا بالنسبة لي مصدر إعجاب واهتمام، إذ تجد في هذا البلد تاريخا عميقا وثقافة غنية تعكس أمة ذات جذور راسخة، وتجد فيه أيضا شعبا مضيافا، طيب القلب، يتمتع بروح عالية من التعاون والمشاركة. ما لفت انتباهي بشكل خاص هو التماسك الاجتماعي والتضامن الذي يسود بين أبناء هذا البلد، حيث شكلوا وحدة متفردة من الوفاق والاحترام رغم تنوعهم الثقافي والعرقي، ما يعكس نضجا اجتماعيا غير مسبوق.
ومن خلال الموقع الجغرافي الاستراتيجي لموريتانيا في قلب غرب إفريقيا، أرى أنها تمتلك إمكانات اقتصادية هائلة وموارد طبيعية متنوعة، يمكن أن تكون أرضا خصبة لتعزيز التعاون الثنائي بين إيران وموريتانيا، في مجالات متعددة كالاقتصاد، الطاقة، والتنمية المستدامة. هذه الإمكانيات تستدعي مزيدا من التنسيق والعمل المشترك لبناء مستقبل مزدهر.
ومن جهة أخرى، فإنني أجد أن روح العزيمة والاجتهاد التي تميز شباب موريتانيا، ورغبتهم العميقة في التقدم والتنمية، كانت مصدر إلهام لي. إنهم يحملون في نفوسهم أملا كبيرا في المستقبل، وهو ما يجعلني متفائلا بشأن الإمكانيات التي يمكن أن تحققها هذه الأمة.
بشكل عام، أرى في موريتانيا بلدا يمتلك طاقات كبيرة للنمو والتطور، وأطمح إلى أن نتمكن من توسيع آفاق التعاون الثقافي، الاقتصادي، والسياسي بين إيران وموريتانيا بما يحقق المصلحة المشتركة للشعبين، ويعزز روابط الصداقة بين بلدينا.
كلمة أخيرة توجهونها عبر “الحدث ميديا” إلى الشعب الموريتاني ، قيادة وشعبا، وخاصة إلى الشباب.
السفير:
أود أن أوجه رسالة خاصة إلى شعب موريتانيا العزيز، وخاصة إلى الشباب الطموح الذين يمثلون الأمل والمستقبل لهذه الأمة العظيمة:
أنتم الجيل القادم، وأنتم الأمل في بناء وطنكم الغالي. عليكم أن تؤمنوا بقدراتكم وبإمكاناتكم الكبيرة التي يمكن أن تحققوا بها مستقبلا مشرقا لموريتانيا. استثمروا في العلم والمعرفة، فهما الطريق نحو التقدم والازدهار. حافظوا على قيم الوحدة والتعاون، فبها تبنى المجتمعات القوية والناجحة. نعم، التحديات كبيرة، ولكن بإرادتكم وبالعمل الجاد، ستتمكنون من تحويل هذه التحديات إلى فرص، وموريتانيا ستصبح بإرادتكم دولة مزدهرة، قوية، ومستقلة.
نحن في إيران نؤمن بأهمية الصداقة والتعاون المثمر مع موريتانيا، ونتطلع إلى تعزيز العلاقات بين بلدينا في جميع المجالات، من أجل تحقيق رفاهية شعوبنا وبناء مستقبل أفضل لنا جميعا.
فلتكن طموحاتكم عالية، ولتكن قلوبكم مفتوحة للتعلم، للفهم، وللتفاهم، فأنتم الركيزة الأساسية لبناء وطن مزدهر ومستقبل مشرق. نجاحكم هو نجاح للجميع، وعزكم هو عز لنا جميعا.
دمتم بخير وعز، فأنتم الأمل، ونجاحكم هو فخر للجميع.
في ختام هذه المقابلة القيمة، نود أن نتوجه بجزيل الشكر والتقدير إلى سفير جمهورية إيران الإسلامية على إجاباته الشافية والمفصلة، وعلى انفتاحه الكامل على جميع الأسئلة المطروحة، مما جعل هذه المقابلة واحدة من أفضل المقابلات التي شهدها موقع الحدث ميديا. ردود السفير كانت واضحة وصريحة، مما يعكس الشفافية والقدرة على التواصل بفعالية في ظل التحديات الراهنة. نأمل أن تكون هذه المقابلة قد أضافت لكم رؤى عميقة ومفيدة حول مواقف إيران وآفاق التعاون مع موريتانيا.
تنويه تحريري:
تؤكد منصة”الحدث ميديا” أن جميع الآراء والمواقف الواردة في هذه المقابلة تعبر عن وجهة نظر سعادة السفير الإيراني بصفته الرسمية، ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للمنصة.
وإذ نؤمن في “الحدث ميديا” بأهمية التعددية واحترام الرأي والرأي الآخر، فإننا نؤكد التزامنا بفتح المجال لأي جهة معنية لتقديم وجهة نظرها أو الرد على ما ورد في هذه المقابلة، وذلك انطلاقا من حرصنا على التوازن الإعلامي والمهنية الصحفية.
المدير الناشر/محمد سالم المختار الشيخ




