الاستحقاق المشروط… وامتحان الفقر بورقة إيجار

في هذا الوطن، يتعلم البعض الصبر من كُتب الرفاه، ويُحاضرون في القناعة من مقاعد الطائرات الخاصة، بينما يئن الجائع في صمت، ويطرق الفقير أبوابًا لا تُفتح إلا بمفاتيح لا يملكها.

من يملك المال لا يحق له أن يُعلّم الجائع الصبر، ولا أن يختبر الفقير في الإيمان.

فالقناعة لا تُقاس من مقعد الطائرة الخاصة، بل من عمق الحاجة، ومن صبر البطون التي لم تعرف الشبع منذ زمن.

تأتي المعايير الجديدة للضمان الاجتماعي، وعلى رأسها شرط “الاستقلالية”، لتضيف على المحتاجين مشقة فوق مشقتهم، وكأن الفقر لا يكفي سببًا، وكأن الجوع لا يُعترف به حتى يُثبت صاحبه أنه يسكن وحده، ويمتلك عقد إيجار إلكترونيًا موثقًا.

أي مفارقة هذه؟

شاب في مقتبل العمر، بلا عمل، بلا دخل، يُطلب منه أن يستأجر مسكنًا مستقلاً ليكون مؤهلاً للدعم!

فتاة يتيمة، أرملة، طالب… جميعهم يُسألون: هل أنتم مستقلون؟ وكأنما الدعم يُمنح لمن استطاع أن يشتري وحدته، لا لمن غرق في وحدته الحقيقية مع الحاجة!

هل أصبح الجوع مسألة عقارية؟! وهل بات الحق في الضمان مربوطًا بعقد إيجار، لا بعقد المواطنة والكرامة؟

إننا لا نرفض التنظيم، بل نرفض أن يتحوّل التنظيم إلى سيف يُشهر في وجه الضعفاء. نرفض أن تُختزل معاناة الناس في خانات على منصة، وأن يُصبح الفقر “خطأ تقنيًا” يُعيد الملف إلى نقطة الصفر.

لقد أحدث هذا الشرط حيرة بين الناس، وأرهق الأسر، وجعل من المحتاج متهمًا إلى أن يُثبت استقلاله، لا عوزه.

جعل من الأم التي تُعيل أبناءها في بيت الجد “تابعة”، لا مستحقة. ومن الابن الذي يسكن مع والده المريض، “غير مستقل”، ولا مؤهل.

ما هكذا تكون الرحمة، وما هكذا يُفهم الدعم.

إن السياسات الاجتماعية العادلة لا تُبنى على افتراض سوء النية، ولا على تحميل الفقير عبء الإثبات.

بل تُبنى على الإيمان بأن من يطلب المساعدة لا يفعلها ترفًا، بل اضطرارًا، وأن من طرق باب الدولة، إنما يفعل ذلك لأنه لم يجد بابًا آخر.

فيا من تصوغون القرارات من أبراج الإدارة العالية، انزلوا قليلًا إلى حيث القلوب مثقلة، والعيون معلّقة بأمل الدعم. انزلوا إلى الأزقّة التي لا يعرفها الإسفلت، إلى البيوت التي تتقاسمها العائلات تحت سقفٍ واحد، لا لأنهم لا يؤمنون بالاستقلال، بل لأنهم لا يملكون ثمنه.

انزلوا إلى حيث الكرامة تُقايض البقاء، وحيث الأمهات يؤجلن حاجتهن ليكمل الأبناء عامهم الدراسي، وإلى حيث الأب لا يشتكي، لكنه ينهار بصمت.

هناك، في التفاصيل الصغيرة، حيث لا تصل لوائح الشروط، ولا تُسمع لغة المنصات، ستعرفون أن الفقر لا يُختزل في “عقد إيجار”، ولا يُقاس بحجم الوحدة السكنية، بل يُقاس بما كُسر في الروح، وما ضاع من حق.

تذكّروا جيدًا:

من يملك المال لا يحق له أن يُعلّم الجائع الصبر، ولا أن يختبر الفقير في الإيمان.

فالقناعة لا تُقاس من مقعد الطائرة الخاصة، بل من قاع الحاجات المؤجلة، من خبزٍ قُسِم على أكثر من جائع، ومن قلب أمٍّ تنتظر رسالة “تم القبول”… فلا تصل.

بقلم: مرزوق بن علي الزهراني

مرزوق بن علي الزهراني 🇸🇦

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى