أليست فلسطين أهلًا للاعتراف… كدولة حرة ذات سيادة؟

ليس سؤالًا سياسيًا عابرًا، بل سؤال وجودي، أخلاقي، إنساني، وفلسفي في جوهره. سؤال ظل يتردد في ضمير العالم لعقود، لكنه اليوم يعود بإلحاحٍ صارخ، مدفوعًا بدماء الشهداء، ودموع الأمهات، وأنين الجوعى، ومجازر الأطفال في غزة.

في زمن تماهت فيه الدعاية مع الرواية، وارتبك فيه العالم بين منطق القوة ومبادئ العدالة، يخرج صوت جديد – من قلب الغرب تحديدًا – يطالب بالحق، لا كتعبير عاطفي، بل كواجب أخلاقي تأخر كثيرًا.

الاعتراف بدولة فلسطين لم يعد حلمًا مؤجلًا، بل تحوّل إلى مشروع قرار يطرق أبواب البرلمانات، ويتسلّل إلى طاولات القرار السياسي في عواصم كانت يومًا منابر للفيتو والصمت.

فرنسا أزاحت الستار عن هذا التحول، حين أعلن رئيسها إيمانويل ماكرون نيّته الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية خلال اجتماع الأمم المتحدة المرتقب في سبتمبر.

تبعتها بريطانيا، ثم كندا، وستتبعها دول أوروبية أخرى قريبًا، في مشهدٍ يشي بتبدّل عميق في المزاج السياسي العالمي: من التواطؤ إلى التبصّر، ومن الانحياز المطلق إلى محاولة استعادة التوازن… ولو بعد فوات الأوان.

أما قلب المؤسسة الأميركية – التي طالما وقفت حائط صد أمام هذا الاعتراف – فقد بدأ يرتجف، حين وقّع أكثر من 12 نائبًا ديمقراطيًا في الكونغرس رسالة تحث إدارة الرئيس دونالد ترمب، المعروف بمواقفه المنحازة لإسرائيل، على الاعتراف بدولة فلسطين.

ولم تكن هذه الدعوة وليدة الحسابات السياسية فقط، بل نتيجة لانفجار أخلاقي في وجه آلة الموت الصامتة، إذ إن المجازر التي تُرتكب في غزة لم تترك للعالم هامشًا للاختباء خلف الأعذار.

وهنا، لا بد من التذكير بأن هذه التحركات تأتي في ظل واقع دامٍ، حيث يُدفع الشعب الفلسطيني إلى حافة الفناء عبر تجويعٍ ممنهج، وتنكيلٍ متواصل، وتهجيرٍ قسري… وكأنّ الاعتراف بحق الفلسطيني في الحياة لا يأتي إلا حين يصبح الموت هو اللغة اليومية لتفاصيله.

إنه اعتراف يُنتزع من بين الحطام، لا يُمنح تفضلًا.

اليوم، تعترف 147 دولة من أصل 193 في الأمم المتحدة بدولة فلسطين.

إنها أغلبية ساحقة، لكنها تبقى ناقصة ما دامت بعض القوى الكبرى – التي تحتكر مفاتيح القرار الدولي – تواصل تأجيل الاعتراف، خشية من غضب الحليف الإسرائيلي، أو خضوعًا لحسابات النفوذ والقوة.

وهنا يُطرح السؤال:

هل ما زالت شرعية وجود الشعوب تُمنح بمزاج بعض العواصم، لا بإرادة أصحاب الأرض والحق؟

وقد يكون الاعتراف المرتقب من بعض دول الغرب – وتحديدًا من قلب الكونغرس الأميركي – علامة فارقة.

فأن يولد الاعتراف من رحم مؤسسة طالما كانت سدًّا منيعًا في وجه هذا الحق، هو زلزال هادئ يعكس اهتزاز الرواية الإسرائيلية في الضمير الغربي.

وأن يتضاعف عدد النواب المؤيدين ثلاث مرات عن مبادرات سابقة، يعني أن الرواية الفلسطينية، التي طال تغييبها، بدأت تجد طريقها إلى الوعي، وربما إلى القرار.

ومن اللافت أيضًا أن الاعتراف الدولي بفلسطين بات اليوم أكثر من مجرد خطوة سياسية، بل هو تحوّل فلسفي عميق.

لم يعد الاعتراف مجاملة دبلوماسية، بل لحظة مصالحة بين السياسة والأخلاق، بين التاريخ والحقيقة، بين الإنسان وظلّه.

إنه شهادة بأن الضمير العالمي بدأ يتململ من سباته، وأن كفة الإنسان بدأت – ولو قليلًا – تميل على كفة المصالح.

وفي هذا المشهد المتغيّر، يبرز الدور العروبي الصادق للمملكة العربية السعودية، بقيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين – حفظهما الله – التي ظلت ثابتة على موقفها من فلسطين، قولًا وفعلًا، دعمًا سياسيًا وماليًا ودبلوماسيًا، دون ضجيج إعلامي أو مزايدات موسمية.

فمنذ تأسيسها وحتى اليوم، جعلت المملكة من القضية الفلسطينية قضية مركزية في سياستها الخارجية، انطلاقًا من إيمانها العميق بعدالة هذا الحق، وحرصها المبدئي على دعم نضال الشعب الفلسطيني نحو حريته واستقلاله.

ولا غرابة في أن تكون الرياض حاضرة بقوة في أي تحوّل دولي يتجه نحو الاعتراف بفلسطين. فهي لم تكن يومًا متفرجًا على المأساة، بل كانت دائمًا في قلب الفعل، تصوغ المواقف بصمت الحكماء، وتراكم التأثير بثبات الشرفاء.

وإن كانت هذه الجهود الجادّة لا تروق لبعض الخونة والحاقدين، الذين اعتادوا مهاجمة المملكة صباح مساء، فإنّ المملكة تمضي بثباتها المعهود، لا تعبأ بالأصوات النشاز، لأنها تؤمن أن دعم الحق لا يحتاج إلى صراخ، بل إلى شرف المبدأ ونقاء المقصد.

الاعتراف بدولة فلسطين ليس منحة تُمنَح، بل عدالة مؤجلة، واستحقاق تاريخي يجب أن يُستعاد.

وإنّ الاعتراف الحقيقي، في جوهره، لا يُمنح لفلسطين فقط… بل يُمنح للعالم نفسه، شهادة بأنه بدأ يتعافى من عماه التاريخي، ومن شلل أخلاقه المزمن أمام الدم الفلسطيني.

وتأسيسًا على ما سبق، يبقى السؤال الأهم:

هل نضج العالم بما يكفي ليعترف أخيرًا بفلسطين كدولة حرة ذات سيادة؟

هل آن أوان التصحيح الأخلاقي بعد هذا التيه الطويل؟

قد لا نملك الإجابة النهائية،لكننا نعلم تمامًا أن فلسطين لا تطلب شفقة… بل اعترافًا بوجودها،كي يتصالح العالم مع ذاته أولًا.

بقلم:مرزوق بن علي الزهراني

بقلم :مرزوق بن علي الزهراني🇸🇦

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى