أنس الشريف: إن وصلتكم كلماتي فقد قتلتني إسرائيل

في لحظات يختلط فيها الحبر بالدم، وتتحول الكلمة إلى شرف ووصية، يكتب الأحرار ما تبقى من قلوبهم قبل أن تسكتهم رصاصات الغدر أو قذائف الحقد.
هذه ليست مجرد كلمات، بل آخر ما جاد به قلم الشهيد الصحفي أنس جمال الشريف، وهو يواجه الموت ثابتا على المبدأ، حاملا صوته وأمانته حتى آخر نفس.
نضع بين أيديكم رسالته الأخيرة… وصية رجل اختار أن يكون صدى الحقيقة، حتى لو كان الثمن حياته.
وصية الشهيد أنس جمال الشريف:
هذه وصيتي، ورسالتي الأخيرة.
إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي.
بداية، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهد وقوة، لأكون سندا وصوتا لأبناء شعبي، مذ فتحت عيني على الحياة في أزقة وحارات مخيم جباليا للاجئين، وكان أملي أن يمد الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة “المجدل”، لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ.
عشت الألم بكل تفاصيله، وذقت الوجع والفقد مرارا، ورغم ذلك لم أتوان يوما عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهدا على من سكتوا، ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا، ولم تحرك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكنا، ولم يوقفوا المذبحة التي يتعرض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف.
أوصيكم بفلسطين، درة تاج المسلمين، ونبض قلب كل حر في هذا العالم.
أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يمهلهم العمر ليحلموا ويعيشوا في أمان وسلام، فقد سحقت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران.
أوصيكم ألّا تسكتكم القيود، ولا تقعدكم الحدود، وكونوا جسورا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمس الكرامة والحرية على بلادنا السليبة.
أُوصيكم بأهلي خيرا، أوصيكم بقرة عيني، ابنتي الحبيبة شام، التي لم تسعفني الأيام لأراها تكبر كما كنت أحلم.
وأوصيكم بابني الغالي صلاح، الذي تمنيت أن أكون له عونا ورفيق درب حتى يشتد عوده، فيحمل عني الهم، ويكمل الرسالة.
أوصيكم بوالدتي الحبيبة، التي ببركة دعائها وصلت لما وصلت إليه، وكانت دعواتها حصني، ونورها طريقي. أدعو الله أن يربط على قلبها، ويجزيها عني خير الجزاء.
وأوصيكم كذلك برفيقة العمر، زوجتي الحبيبة أم صلاح بيان، التي فرقتنا الحرب لأيام وشهور طويلة، لكنها بقيت على العهد، ثابتة كجذع زيتونة لا ينحني، صابرة محتسبة، حملت الأمانة في غيابي بكل قوّة وإيمان.
أوصيكم أن تلتفوا حولهم، وأن تكونوا لهم سندا بعد الله عز وجل.
إن مت، فإنني أموت ثابتا على المبدأ، وأُشهد الله أني راض بقضائه، مؤمن بلقائه، ومتيقن أن ما عند الله خير وأبقى.
اللهم تقبلني في الشهداء، واغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، واجعل دمي نورا يُضيء درب الحرية لشعبي وأهلي.
سامحوني إن قصرت، وادعوا لي بالرحمة، فإني مضيت على العهد، ولم أُغير ولم أُبدل.
لا تنسوا غزة…
ولا تنسوني من صالح دعائكم بالمغفرة والقبول.
أنس جمال الشريف
06.04.2025
هكذا رحل أنس، وفي يده القلم، وعلى كتفه أمانة الكلمة، وفي قلبه فلسطين كلها.
لم يساوم، ولم يبدل، ولم ينحن إلا لربه، فكان شهيد الحقيقة وصوت المظلومين.
سلام على روحه الطاهرة التي ارتقت وهي تكتب للتاريخ، وتشهد على جريمة لن تسقط بالتقادم.
سلام على وصيته التي ستبقى نبراسا للأحرار، ودربا لكل من آمن بأن الحرية ثمنها غال، لكن الحياة بلا كرامة أغلى وأثمن.
نم قرير العين يا أنس… فقد أوصلت الرسالة، وأديت الأمانة، وخلفت خلفك أمة تعرف طريقها نحو النصر.




