الدواء والغذاء.. معركتان وطنيتان لا بد أن تقودهما الدولة

في خطوة طال انتظارها، حملت تصريحات معالي وزير الصحة محمد محمود ولد أعل محمود نفسا إصلاحيا عميقا، ورسالة بالغة الجرأة والمسؤولية، حين دعا التجار إلى الانسحاب من تجارة الأدوية وتركها لأهلها الشرعيين من الصيادلة والمختصين في علوم الدواء.
لقد أعاد الوزير بذلك طرح سؤال قديم ظل يراوح مكانه: من يحق له أن يتعامل مع حياة الناس وصحتهم؟ فالصيدلة ليست تجارة عادية، بل مهنة إنسانية تقوم على العلم والضمير، ولا يمكن اختزالها في مفهوم الربح والخسارة. إن من يعرف تركيب الدواء، وآثاره الجانبية، وتفاعلاته، يدرك أن كل حبة دواء تحمل في داخلها مسؤولية أخلاقية جسيمة، لا يجوز أن تترك لمن لم يؤت من العلم إلا ميزان البيع والشراء.
إن هذه الدعوة الجريئة لا يمكن النظر إليها كمجرد توجيه إداري أو قرار تنظيمي عابر، بل هي في حقيقتها إعلان نية لإعادة هيكلة قطاع حيوي ظل يئن تحت وطأة الفوضى والتطفل لعقود طويلة. فقد تحول سوق الدواء في البلاد إلى ساحة مفتوحة لكل من شاء أن يبيع ويشتري، دون أدنى اعتبار لأمان المريض أو لحقه في الحصول على دواء موثوق وآمن.
تجار لا علاقة لهم بعالم الطب ولا بمعايير الجودة، أصبحوا يتحكمون في مصير المرضى، يرفعون الأسعار متى شاءوا، ويدخلون أصنافا من الأدوية المجهولة أو منخفضة الفعالية، في غياب رقابة حقيقية. وهنا بالضبط تكمن خطورة الوضع، لأن الدواء ليس سلعة استهلاكية كغيره، بل هو قضية حياة أو موت، والتعامل معه بعقلية السوق الحرة المطلقة هو إخلال صريح بحق الإنسان في العلاج.
من منظور الطبيب، فإن إعادة الصيدلة إلى أهلها تعني استرجاع الثقة في الدواء، وضمان جودة المستحضرات الطبية، والقطع مع فوضى التزوير والغش والاحتكار. الطبيب يعرف أن وصف الدواء لا يكتمل ما لم يكن خلفه صيدلي أمين يعي تركيبته وتفاعلاته وخصائصه.
أما من زاوية القانون، فدعوة الوزير هي خطوة نحو إحياء القوانين المنظمة للمهن الصحية، تلك النصوص التي وضعت لحماية الناس ثم تركت طي النسيان. القانون يمنع غير الصيادلة من مزاولة المهنة، لكنه ظل يخرق يوميا دون رادع، حتى أصبح الخلل هو الأصل، والاحترام هو الاستثناء.
ومن زاوية السياسة العامة، فإن موقف الوزير يمكن قراءته كـ إعلان سيادة صحية، وعودة الدولة إلى ممارسة دورها الطبيعي كضامن للحق في العلاج، وحام للمواطن من جشع السوق ومن فوضى الاستيراد. إنها بداية صحوة وطنية تضع صحة الإنسان قبل كل حساب آخر، وتعيد الاعتبار لمفهوم الدولة الراعية لا الدولة المتفرجة.
غير أن الإصلاح الحقيقي، كما يلوح الوزير، لا ينبغي أن يقف عند حدود الدواء وحده، بل أن يمتد إلى كل ما يمس حياة المواطن اليومية، وفي مقدمتها الغذاء. فكما أن صحة الجسد تتوقف على سلامة الدواء، فإن بقاؤه ذاته مرهون بجودة الغذاء.
لقد أصبحت المواد الغذائية بدورها رهينة للمضاربة والاحتكار، حيث ترتفع الأسعار دون منطق، وتغرق الأسواق بمنتجات تفتقر لأدنى معايير السلامة والجودة. ومن هنا فإن حصر استيراد السلع الحيوية بيد الدولة أو تحت رقابتها الصارمة ليس ترفا ولا تدخلا اقتصاديا عتيقا كما قد يدعي البعض، بل هو ضرورة وطنية تفرضها مسؤولية الدولة في حماية أرواح مواطنيها وضمان أمنهم الغذائي والدوائي معا.
لقد وضع الوزير، بكلمة واحدة، إصبعه على جوهر العلة التي نخرت قطاع الصحة لعقود طويلة: فوضى في التوزيع، ضعف في الرقابة، وغياب للضمير في التعامل مع صحة الإنسان. إنها شجاعة المسؤول الذي لا يكتفي بتشخيص الداء، بل يعلن عن عزمه على معالجته، مهما كانت كلفة العلاج. وإذا تحولت هذه الدعوة إلى سياسة حكومية واضحة المعالم، فإنها ستكون بحق بداية عهد جديد في تاريخ الصحة الموريتانية، تكتب فيه الدولة بوصفها حامية المواطن لا حارسة السوق.
إن ما قاله الوزير ليس شعارا للاستهلاك الإعلامي، ولا تصريحا عابرا في لحظة انفعال، بل نداء إصلاحي صادق يعيد الاعتبار لقيمة الحياة في وجه فوضى الربح. إنه صوت العقل حين يتكلم باسم الضمير، وصوت الدولة حين تعود إلى وجدانها الأول: الدواء والغذاء حقّ للمواطن، لا مجال فيهما للمزايدة ولا للربح الفاحش.
بقلم : محمد سالم المختار الشيخ




