العدالة لا تعرف القرابة.. الرئيس أحمد الشرع نموذجا في مواجهة المحسوبية

في تاريخ الأمم والشعوب، ما من خطر فتك بجسد الدولة وأضعف مؤسساتها مثل خطر الزبونية والمحسوبية، ذلك السم الزاحف الذي يسري في العروق ببطء، حتى إذا تمكن من مفاصل الدولة قضى على روحها، وبدد ثرواتها، وجعل الولاء بديلا عن الكفاءة، والقرابة طريقا إلى النفوذ. فالمحسوبية ليست مجرد فساد إداري، إنها منظومة كاملة من التوريث الخفي للسلطة والثروة، تنشئ طبقة تعيش على حساب الوطن وتستنزف دماءه باسم الانتماء العائلي أو السياسي أو القبلي، حتى تتحول الدولة من كيان جامع إلى غنيمة موزعة بين المقربين.

إن أخطر ما يصيب الدول السائرة في طريق النمو هو أن تتحول المناصب العامة إلى إرث شخصي، والوزارات إلى ملكيات عائلية، والمؤسسات إلى ساحات نفوذ لأبناء العمومة وأقارب الزوجة والمعارف والأصدقاء. ففي اللحظة التي يفتح فيها المسؤول، مهما كان منصبه، الباب أمام حاشيته لتستغل مكانته أو اسمه، تبدأ الدولة بالانحدار نحو هاوية لا قرار لها. لا ينهار الاقتصاد فجأة، بل تتآكل الثقة، وتضيع العدالة، ويتحول الانتماء من الوطن إلى الدائرة الصغيرة التي تحيط بالسلطة. وهكذا يموت مبدأ تكافؤ الفرص، ويدفن الأمل في النفوس الطامحة، وتغتال الكفاءة على يد القرابة.

لقد كان عمر بن الخطاب، الخليفة العادل، يدرك هذا الداء منذ فجر الدولة الإسلامية. كان يعلم أن الحاكم إذا سمح لأهله أن يتسللوا إلى مفاصل الدولة، فقد خان الأمانة التي حملها أمام الله والأمة. لذلك كان ورعا حازما، شديد المحاسبة لنفسه وأبنائه. روي أنه عندما طلب ابنه عبدالله شيئا من العسل كان في بيت المال، قال له عمر: “والله لا أطعمك منه، إنما أنت رجل من المسلمين”. لم يقلها قسوة، بل عدلا؛ فالحاكم في ميزان الحق لا يملك أن يفضل ولده على الناس. ذلك الورع هو ما جعل دولة الإسلام تقوم على العدل لا على العائلة، وعلى الشريعة لا على الشفاعة، وعلى مبدأ أن من استرعي أمر المسلمين فعليه أن يعدل فيهم كما يعدل في نفسه.

ولو تأملنا حال الدول اليوم، لوجدنا أن ما أضعفها ليس الفقر ولا الجهل، بل تلك الشبكات العائلية والزبونية التي تخنق القرار الوطني وتمنع الهواء عن مؤسسات الدولة. المسؤول الصالح قد يكون نزيها في ذاته، لكن الخطر يكمن في الحاشية التي تلتف حوله وتستغل اسمه لتحقيق مصالحها، حتى يصبح هو نفسه أسيرا لعلاقاته الاجتماعية. فالحاشية ليست مجرد أصدقاء أو أقارب، إنها جدار الخطر الذي يلتف حول رأس الدولة ليعزله عن شعبه، وليحول القرار العام إلى قرار خاص، والمال العام إلى مورد خاص، والسلطة إلى لعبة عائلية. ومن هنا تبدأ الدول في السقوط التدريجي، إذ تغيب الشفافية، وتتآكل الثقة، ويتحول الولاء للوطن إلى ولاء للأشخاص.

ومن بين النماذج الحديثة التي كسرت هذا النمط المسموم، يبرز الرئيس السوري أحمد الشرع كمثال نادر في زمن عربي مثقل بالمحسوبيات. هذا الرجل، الذي جاء من رحم الثورة، أدرك منذ اللحظة الأولى أن معركة بناء الدولة لا تقل صعوبة عن معركة إسقاط الطغيان، وأن أخطر أعداء الثورة ليس العدو الخارجي، بل الفساد الداخلي الذي يتخفى في ثياب الولاء. ففي خطوة غير مسبوقة، أمر الشرع بإغلاق مكتب شقيقه جمال وسط دمشق بعد ورود معلومات عن استغلاله لاسم العائلة في صفقات تجارية مشبوهة، ومنع أي جهة حكومية من التعامل معه، حتى وجد المكتب مختوما بالشمع الأحمر. لقد كانت تلك الرسالة أبلغ من كل الخطب، إذ قال الشرع بفعله قبل قوله: لا قرابة فوق القانون، ولا نسب يعلو على مصلحة الدولة.

ولم يتوقف عند ذلك، بل أطلق حملة صارمة ضد مظاهر الترف غير المبرر في أوساط المسؤولين، فأمر موظفي الدولة الذين يملكون سيارات فارهة بتسليم مفاتيحها فورا، قائلا بسخرية لاذعة: “لم أكن أعلم أن رواتب الحكومة بهذه الضخامة!”، في إشارة إلى أن الثراء الفاحش لمسؤول بسيط لا يمكن أن يكون إلا من طريق غير مشروع. لقد أراد أن يذكرهم بأنهم أبناء الثورة لا أبناء القصور، وأن الثورة التي قامت باسم الكرامة لا يمكن أن تتحول إلى وسيلة للثراء. هذا الموقف النادر جسد معنى الدولة العادلة التي لا تميز بين القريب والبعيد، ولا تساوم على القيم من أجل الدم أو المصالح.

والمفارقة أن الشرع لم يكن في منأى عن الضغوط العائلية، فإخوته الآخرون يشغلون مناصب رسمية في الحكومة الجديدة، ومع ذلك لم يشفع ذلك لجمال، لأن الرئيس أدرك أن العدالة لا تتجزأ. فحين يساوم القائد على مبدأ واحد بحجة القرابة، يفتح باب الفساد على مصراعيه. لذلك جمع الشرع أفراد أسرته في اجتماع عائلي، وحذرهم بوضوح من استغلال اسم العائلة في أي شأن تجاري أو سياسي، مؤكدا أن الثورة لم تقم لتورث النفوذ، بل لتقيم العدل.

هذه المواقف ليست مجرد إجراءات إدارية، بل هي إعلان فلسفة جديدة في الحكم: أن الدولة لا تقوم إلا على الشفافية والمحاسبة، وأن الكرامة الوطنية لا تبنى على المجاملات، وأن الحاكم الذي يتهاون مع أقاربه يفتح الباب لغيره ليفعل الشيء نفسه، حتى تغرق الدولة كلها في بحر الفساد. فإصلاح الدولة يبدأ من القمة، وحين يضرب القائد المثل بنفسه، يسقط الخوف من قلوب الناس، وتستعيد العدالة هيبتها، ويستقيم الميزان.

لقد أثبتت التجارب التاريخية أن الدول لا تنهار فجأة، بل تتآكل من الداخل عندما يتحول المنصب إلى جائزة، والمال العام إلى مورد شخصي، والسلطة إلى وسيلة لإثراء الأقارب. وما دمنا نبرر للفساد باسم “الولاء” و”الخدمة السابقة” و”صلة الدم”، فلن تقوم لنا نهضة حقيقية. فالكفاءة هي أساس التنمية، والمساواة هي شرط المواطنة، والعدل هو الذي يضمن بقاء الدولة مهما اشتدت العواصف. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.” فالهلاك يبدأ حين يعفى الأقوياء من الحساب ويرهق الضعفاء بالعقاب.

إن الأمة التي تدار بالمحسوبية لا يمكن أن تنهض، ولو امتلكت ثروات الدنيا. فالمواهب تقتل في مهدها، والعقول تهاجر، والطاقات تضيع في متاهات التوصيات. والنتيجة أن يتحول الوطن إلى مزرعة، تدار بمزاج الأقارب وولاءات العائلة. بينما الأمم التي تحترم القانون تصنع معجزات من العدم، لأنها تجعل معيار التقدم هو العمل لا الاسم، والعطاء لا النسب.

من هنا فإن على الدول النامية، التي تسعى لبناء نهضة حقيقية، أن تدرك أن التنمية ليست في الأسمنت والطرقات وحدها، بل في ترسيخ ثقافة العدالة والمساءلة، في أن يتعلم المواطن أن الولاء للوطن لا يمر عبر صلة الدم، بل عبر الكفاءة والإخلاص. وأن المسؤول مهما علا شأنه يظل خادما للمصلحة العامة لا سيدا عليها. إن الإصلاح لا يبدأ بإعلان النوايا، بل بكسر دائرة الزبونية من جذورها، حتى تصبح مؤسسات الدولة حارسة للحق لا خادمة للأشخاص.

ولعل ما يجمع بين عمر بن الخطاب وأحمد الشرع، رغم تباعد القرون والظروف، هو ذلك الخيط النادر من النزاهة السياسية والورع الأخلاقي؛ كلاهما أدرك أن الحكم لا يستقيم إلا إذا كسر جدار العائلة أمام عدالة الدولة. فالأول أقام الخلافة على الحق، والثاني يحاول أن يقيم دولة على أنقاض الفساد. كلاهما علم أن أخطر كلمة في تاريخ الأمم هي “ابن فلان”، لأن تحتها يدفن العدل وتباع الكرامة.

إن التاريخ لا يخلد من يبني القصور، بل من يبني الضمائر. والعدالة هي التي ترفع الدول فوق أعدائها، وتحميها من نفسها قبل أن تحميها من خصومها. وما دامت هناك قيادات قادرة على أن تقول لأقاربها “لا شرف لكم فوق شرف الوطن”، فسيبقى الأمل قائما في أن يولد فجر عربي جديد، لا تحكمه العصبية، ولا تستنزفه الزبونية، بل يقوده الضمير، ويصنعه الشرف، ويحرسه العدل.

بقلم : محمد سالم المختار الشيخ

نواكشوط/موريتانيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى