صحراء ميديا.. بوابة الحلم وبذرة البداية

لم يكن في خلدي يوما أن أكون صحفيا. كنت أهوى الأدب العربي، وأتذوق جمال الكلمة، وأجد في الشعر الحر مساحة أتنفس من خلالها دهشة الحياة ووجعها. كنت أكتب لنفسي، أمارس الكتابة كفعل هروب إلى الضوء، لا كحرفة أو مهنة لها أوقاتها وحدودها. غير أن الأقدار لها دائما كلمة الفصل، فهي التي تكتب سيناريو الحياة على مهل، وتخبئ لنا خلف أبواب الضيق نوافذ رحبة تطل على الفرج. ففي أيام كانت فيها الظروف تشتد علي، والرزق يضيق بي، رزقت بطفلي الأول وكنت حينها بلا عمل ولا مورد ثابت، وكنت أبحث عن بصيص أمل أستطيع أن أتمسك به. وذات مساء، رن هاتفي يحمل صوتا مألوفا، صديق لي يملك صيدلية في تفرغ زينه، أخبرني أن أحد أصدقائنا القدامى يريد أن يراني ويسلم علي. لم أتوقع أن يكون ذاك الصديق العزيز هو هاشم سيدي سالم، زميل الدراسة ورفيق الأيام الجميلة، الذي غيرته الأيام فصار صحفيا معروفا ومراسلا لعدة قنوات فضائية.
كان لقاؤنا دافئا، استعاد فيه كل منا ذكريات بعيدة من مقاعد الدراسة وأحلام الشباب. لكنه سرعان ما انتقل إلى حديث آخر، حين علم بظروفي الصعبة. عندها، بادر باتصال هاتفي في اللحظة نفسها مع أحد العاملين في مؤسسة صحراء ميديا — لم أكن أعرفه حينها — وأبلغه بأمري، فكان الرد السريع: “ليأت غدا صباحا إلى المؤسسة.” أغلقت الهاتف وأنا لا أصدق. لم أسأل عن طبيعة العمل ولا مجاله، لم أفكر في المرتب أو المسمى الوظيفي. كنت فقط ممتنا للقدر الذي يمد يده في اللحظة التي تظن أنه تركك وحيدا.
وفي صباح اليوم التالي، الثامنة تماما، توجهت إلى العنوان الذي زودني به هاشم. كانت مباني أنيقة قرب مقر الأمم المتحدة في تفرغ زينه، واللافتة على الواجهة تحمل اسما لم أكن أعرف عنه شيئا: صحراء ميديا. لم أدر أن تلك الخطوة الصغيرة ستكون منعطفا يغير مجرى حياتي بأكملها. دخلت بخطوات خجولة إلى قاعة يغلب عليها صمت التركيز، شباب كثر يجلسون أمام شاشات حواسيب، يكتبون، يدققون، ويتبادلون الأخبار والتعليمات. كانت تلك أول مرة أرى فيها الحاسوب عن قرب، كنت قد شاهدته فقط في الأفلام. تبادلنا التحية، وشرحت لهم ما جئت لأجله، فأرشدوني إلى رئيس التحرير الدكتور الشيخ معاذ سيدي عبد الله، الذي استقبلني بوجه بشوش وأدب رفيع. جلست أمامه مرتبكا، لكنه كسر الحاجز بابتسامة ودودة، ثم قال بهدوء الواثق: “اكتب لي مقالا عن التراث الأدبي الشنقيطي، ووادان وشنقيط نموذجا.”
ترددت قليلا، ثم أمسكت بالقلم وبدأت أكتب، كمن يخوض امتحانا مصيريا لا يعرف نتيجته. وبعد نحو نصف ساعة، سلمت الورقة إلى الدكتور معاذ. قرأها بتمعن، ثم استدعى أحد الزملاء وقال له ببساطة لافتة: “اطبعها وانشرها فورا.” لم أستوعب ما حدث، لكنني أدركت أن تلك اللحظة كانت ميلادي الإعلامي الأول، اللحظة التي تحولت فيها من هاو للكلمة إلى كاتب تنشر كلماته للناس.
بعدها قدمني الدكتور الشيخ معاذ إلى الأستاذ محمد الأمين نافع، الصحفي اللامع وخريج الإعلام من تونس، وقال له بابتسامة هادئة: “علمه كيف يكتب.” وهكذا بدأت مرحلة جديدة من حياتي، كان فيها محمد الأمين نافع المعلم والأخ والموجه. علمني أساسيات الكتابة الصحفية، كيف تصاغ الفكرة، وكيف تبنى الجملة، وكيف تكون الكلمة مسؤولة لا مجرد حروف على ورق. كان صبورا إلى أبعد الحدود، يشرح ويعيد ويبتسم. وبعد أسبوع واحد فقط من التدريب المكثف، صرت أستطيع الكتابة على الحاسوب وتصفح الإنترنت وصياغة المقالات والتقارير، حتى كلفت بزاوية يومية تحت عنوان “الشريعة والحياة”، أتناول فيها موضوعات دينية واجتماعية بروح تجمع بين العمق والاعتدال. كانت تلك الزاوية نافذتي إلى الناس، ومنها تعلمت كيف تكون الكلمة رسالة.
ولم يكن محمد الأمين وحده من أضاء طريقي في تلك البدايات، فقد كان حولي كوكبة من الزملاء الرائعين الذين لم يبخلوا علي بالنصح والمساندة. أذكر منهم بالعرفان سعيد ولد حبيب، عبد الله اتفاغ المختار، بشير ببانه، الربيع ولد إدوم، يعقوب باهداه، والناجي ولد أحمدو، وغيرهم ممن جعلوا من أجواء المؤسسة بيتا ثانيا، تسوده روح التعاون والتقدير والاحترام. كانت صحراء ميديا بالنسبة لي أكثر من مجرد مكان عمل؛ كانت عائلة حقيقية تجمعها المودة والمهنية، ويقودها فريق إداري يعرف كيف يمزج بين الصرامة والإنسانية. كان المدير التنفيذي عبد الله محمدي باه رجل انضباط واقتدار، والمدير العام الشيخ الداه نعم الرجل، حكيم في قراراته، قريب من الجميع، ومعهما المحاسب الخلوق الذي يجسد الأمانة في أبهى صورها الأخ ودو.
قضيت في المؤسسة أكثر من خمس سنوات هي الأجمل في حياتي المهنية. تعلمت فيها أن الصحافة ليست مهنة عابرة، بل رسالة ومسؤولية، وأن الكلمة حين تخرج من القلب تصل إلى القلوب. ومع انتقالنا إلى المقر الجديد في تفرغ زينه، تعرفت على زملاء جدد تركوا بصمتهم الراقية في مسيرتي، مثل حبيب حرمه عبد الجليل، محمد ولد العاقل، محمد أعبيدي شريف، وجمال عمر، وغيرهم من الكفاءات التي صنعت مجد الإعلام الموريتاني.
كانت صحراء ميديا، وما زالت، مؤسسة رائدة سبقت زمنها، فهي أول مؤسسة إعلامية موريتانية متخصصة في المجال السمعي البصري والصحافة المكتوبة، بخبرة تمتد لأكثر من عشرين عاما في منطقة غرب إفريقيا والمغرب العربي. من نواكشوط إلى الرباط وداكار وأبيدجان، ومن المكاتب المحلية إلى البث المباشر عبر الأقمار الصناعية، كانت دائما في قلب الحدث، تقدم صورة موريتانيا إلى العالم بلغات ثلاث: العربية والفرنسية والإنجليزية، ملتزمة بخط تحريري يجمع بين المهنية والموضوعية. لم تكن مجرد منبر للأخبار، بل مؤسسة متكاملة تحتضن العشرات من الصحفيين والفنيين من موريتانيا والعراق والمغرب والسنغال وساحل العاج ومالي، وتربطها علاقات تعاون وشراكات مع كبريات المؤسسات الإعلامية العربية والدولية، كما أسست مركزا للدراسات والتكوين في مجال الصحافة والسمعيات البصرية، في مبادرة نادرة في محيطنا الإعلامي.
ومن رحم هذه المدرسة العريقة، خرجت إلى العالم أكثر وعيا بثقل الكلمة، وأكثر إيمانا بأن الإعلام ليس مجرد وسيلة بل هو مشروع حياة. واليوم، وأنا أكتب هذه السطور، أجد نفسي أعود بذاكرتي إلى تلك اللحظات الأولى في صحراء ميديا، وأنا أرى ثمرة تلك التجربة ماثلة أمامي في مؤسستي الإعلامية الحالية “الحدث ميديا”، التي ولدت من شغف الأمس، وأصبحت اليوم موقعا إلكترونيا ومنصة يتابعها الآلاف من الداخل والخارج، وفضاء رحبا ينشر فيه أدباء وإعلاميون عرب، حتى غدت واحدة من المنصات الموريتانية المتقدمة في تصنيف “موريتانيا الآن”.
إن ما وصلت إليه اليوم ما كان ليكون لولا تلك الخطوة الأولى التي خطوتها بخجل ذات صباح في تفرغ زينه. فـصحراء ميديا كانت بوابة الحلم وبذرة البداية، كانت المدرسة التي علمتني أن الكلمة شرف، وأن الصحفي الحقيقي هو من يكتب بقلبه قبل قلمه. لذلك، أقولها بصدق وامتنان:
كل الشكر والعرفان لتلك المؤسسة الرائدة، إدارة وعمالا، زملاء وأصدقاء، أساتذة وموجهين. فقد علمتموني أن المهنة لا تختصر في الخبر والعنوان، بل في الصدق، والالتزام، وحب الوطن.
ستظل صحراء ميديا بالنسبة لي ذاكرة مضيئة في مسيرة الإعلام الموريتاني، وبيتا أول لا ينسى، وجرسا أيقظ في داخلي حب الكلمة ومسؤوليتها. وما أجمل أن نكتب عن بداياتنا حين تكون بداياتنا بحجم النور.
بقلم : محمد سالم المختار الشيخ ” الفقيه”




