جرح جديد في وجه العدالة.. مستوطن يعتدي على مسنة فلسطينية

في لحظة واحدة، التقت وحشية المستوطنين ببراءة الأرض، وسقط وجه الإنسانية مغشيا عليه على تراب فلسطين.
امرأة فلسطينية مسنة، ترتدي ثوبها الريفي المطرز برائحة الزمن الجميل، كانت تجمع الزيتون بيديها المتجعدتين اللتين حملتا الأمل والخبز لأجيال كاملة، فإذا بمستوطن غريب الوجه والهوى يقترب منها بعصاه الغليظة، يهوي بها على رأسها، غير آبه بعمرها، ولا بضعفها، ولا بقداسة الشجرة التي تستظل بها.
في لحظة، انكسرت هيبة الأرض أمام بربرية جديدة، وسقطت المرأة مغشيا عليها، كأنها سقطت عن صبر دام سبعين عاما.
هذا المشهد وحده كاف ليفضح زيف كل شعارات العالم التي تتغنى بالإنسانية والعدالة والحق.
هذه الحادثة ليست استثناء، بل امتداد لمسلسل طويل من الجرائم التي ترتكب بدم بارد في وضح النهار.
كل موسم زيتون في فلسطين يتحول إلى موسم مواجهة مفتوحة بين أصحاب الأرض ومغتصبيها.
حين يخرج الفلاحون إلى الحقول ليقطفوا ثمار تعبهم، يتحول المشهد الذي كان يجب أن يكون احتفالا بالحياة إلى معركة للبقاء.
يهاجم المستوطنون العزل، يحطمون أغصان الزيتون، يسرقون الثمار، يعتدون على الشيوخ والنساء والأطفال، وكأنهم يحاولون محو العلاقة المقدسة بين الفلسطيني وأرضه.
إنها سياسة إذلال متواصلة، لا هدف لها سوى قتل الانتماء وتجفيف الذاكرة، لأن الاحتلال يدرك أن بقاء الفلسطيني متشبثا بزيتونته أخطر عليه من أي سلاح.
وفي الصورة التي هزت الضمير العالمي، يظهر المشهد واضحا لا يحتاج إلى تفسير:
رجل ملثم يضرب امرأة مسنة بعصا غليظة، بينما الأرض من حولهما شاهدة على الجريمة.
لا سلاح بيدها، لا مقاومة منها، سوى نظرة الخوف والكرامة التي تفيض من جسدها الملقى على التراب.
إنه مشهد يعيد إلى الذاكرة أبشع فصول التاريخ حين كان الضعفاء يسحقون تحت أقدام المتسلطين، وحين كانت الحضارات تنهار لأن الإنسان فقد إنسانيته.
المرأة الفلسطينية في هذه الصورة ليست مجرد ضحية، إنها رمز، اختصار لكل أم فلسطينية لم تغادر أرضها رغم الألم، ولكل يد زرعت الزيتون لتقاوم الموت بالصبر، ولكل روحٍ آمنت بأن هذه الأرض لا تسترد إلا بالثبات.
العالم بأسره مطالب اليوم بأن يقف أمام هذه الصورة وقفة صدق.
فهي ليست حادثة عابرة يمكن تبريرها أو تجاوزها، بل جريمة إنسانية مكتملة الأركان.
حين تضرب امرأة عجوز لأنها تجمع ثمار أرضها، فذلك يعني أن النظام الدولي كله قد فشل في أبسط اختباراته الأخلاقية.
وحين تمارس هذه الوحشية تحت حماية جيش نظامي يطلق على نفسه “جيش الدفاع”، فذلك يعني أن الاحتلال لم يعد يخفي قبحه، بل يمارسه بوقاحة أمام كاميرات العالم، واثقا أن أحدا لن يحاسبه.
فأين هي الأمم المتحدة؟ وأين هي الدول التي ترفع شعار حقوق المرأة؟ وأين ذهبت المنظمات التي تملأ العالم ضجيجا كلما تضرر أحد في مكان آخر؟
ألا تستحق هذه المرأة العجوز تضامنا؟ ألا تستحق شجرة الزيتون التي شهدت على الجريمة دمعة واحدة من ضمير عالميٍ صادق؟
إن ما يجري في الضفة الغربية ليس حوادث فردية كما يحاول الاحتلال تصويرها، بل نظام عنفٍ منظم، يدار بعقلية استعمارية لا ترى في الفلسطيني إلا عائقا يجب إزالته.
هو عنف مدروس، يمارس لإرهاب الفلاحين وثنيهم عن الوصول إلى أراضيهم، في محاولة لفرض واقع جديد قوامه التهجير القسري والتوسع الاستيطاني.
كل حجر يلقى، وكل شجرة تحرق، وكل عجوز تضرب، ليست مجرد فعل كراهية فردي، بل خطوة ضمن خطة أكبر تهدف إلى اقتلاع الإنسان الفلسطيني من جذوره، وتحويل الأرض إلى مساحة خالية من الذاكرة.
لكنهم يجهلون أن الفلسطيني لا يقتلع بسهولة.
فالمرأة التي سقطت اليوم، ستحمل قصتها غدا كل الأمهات، وسيعاد سردها في البيوت وفي المدارس وفي الأهازيج الشعبية.
وكل دمعة نزلت على خدها ستسقي زيتونة جديدة، وكل عصا رفعت على رأسها ستتحول إلى شاهد على جريمة لن تموت بالتقادم.
لقد علم الفلسطيني العالم أن الصبر ليس ضعفا، وأن الدفاع عن الأرض لا يحتاج إلى بندقية بقدر ما يحتاج إلى إرادة لا تقهر.
فالزيتون الفلسطيني، رغم جراحه، ما زال يثمر. وما زالت جذوره تضرب عميقا في الأرض، رغم كل محاولات القلع والاقتلاع.
إن العالم اليوم أمام لحظة فاصلة بين أن يكون شاهدا على الجريمة، أو شريكا في استمرارها.
الصمت لم يعد حيادا، بل تواطؤا.
وكل منظمة تصمت، وكل دولة تتغاضى، وكل من يبرر هذه الأفعال، إنما يشارك في جريمة ضد الإنسانية.
لقد آن الأوان أن يتحد الأحرار في العالم — بمختلف أديانهم وأعراقهم — ليقولوا كلمة واحدة بصوت واحد: كفى.
كفى قتلا للضعفاء، كفى إذلالا للشيوخ والنساء، كفى تحويلا لفلسطين إلى مختبر للوحشية وللصمت الدولي.
إنهم لم يضربوا امرأة فلسطينية فحسب، بل ضربوا كرامة الإنسانية جمعاء.
وما لم يحاسب المعتدون، فإننا سنكون جميعا ضحايا لهذه الهمجية المقنعة التي تزحف على صمت العالم كظل طويل للعار.
في النهاية، سيسقط الاحتلال كما سقطت كل أنظمة القهر قبله، وستبقى الأرض التي احتضنت دموع تلك المسنة شاهدة على أن الحق، مهما طال الليل حوله، لا يموت.
بقلم : محمد سالم المختار الشيخ