ازدواجية واشنطن.. دماء المسيحيين في نيجيريا أغلى من دماء المسلمين في فلسطين والسودان!

في زمن تتداخل فيه المفاهيم وتغتال فيه الحقيقة على أيدي المتحدثين باسم “الحرية والديمقراطية”، تطفو الولايات المتحدة الأمريكية مجددا على سطح الأحداث العالمية، لتقدم نفسها — دون حياء — بوصفها “حامية القيم الإنسانية”، بينما تمارس أبشع أشكال الازدواجية الأخلاقية والسياسية. التصريحات الأخيرة الصادرة عن الرئيس دونالد ترامب، ووزير دفاعه، بشأن ما يحدث للمسيحيين في نيجيريا، لم تكن إلا حلقة جديدة في مسلسل طويل من الغطرسة الأمريكية التي تتستر خلف شعارات إنسانية كاذبة، لتخفي وجها استعلائيا متغطرسا يرى في العالم ملعبا لمصالح واشنطن، وفي الشعوب أدوات صغيرة لخدمة مشاريعها الاستراتيجية. هذه التصريحات تكشف أن منطق القوة لا يزال هو المهيمن على الفكر الأمريكي، وأن نزعة الوصاية لم تبرح وجدان المؤسسة السياسية في واشنطن.

نعم، لا يمكن لأي ضمير حي أن يتجاهل المآسي التي يتعرض لها المسيحيون في نيجيريا على أيدي جماعات الإرهاب والتطرف مثل “بوكو حرام”، فهؤلاء سفاكون للدماء لا دين لهم، وقتلهم للمدنيين العزل هو جريمة ضد الإنسانية تدينها كل الشرائع السماوية والعقول السليمة. والإسلام، في جوهره، بريء من كل فكر متطرف يستبيح دماء الأبرياء باسم العقيدة. غير أن المفارقة الموجعة والمثيرة للاشمئزاز في آن واحد، أن أول من يتحدث اليوم عن “العدالة” و”الإنسانية” هي الدولة التي تغض الطرف — بل وتشارك عمليا — في أبشع الجرائم التي يتعرض لها المسلمون في بقاع شتى من الأرض. من غزة الجريحة التي تقصف يوميا بأسلحة أمريكية، إلى دارفور والفاشر اللتين تنهشهما الحروب والمجاعات، ومن الضفة الغربية إلى مخيمات اللاجئين في اليمن وسوريا، حيث تحول الدعم الأمريكي الأعمى للأنظمة المعتدية إلى رخصة مفتوحة لسفك الدماء.

فكيف لدولة تدعي الدفاع عن الأقليات الدينية أن تصمت على قصف الأطفال في غزة بتمويل أمريكي مباشر؟ وكيف يمكن لمنظري “الحرية الأمريكية” أن يتحدثوا عن “حقوق الإنسان” وهم يدعمون حصار الفاشر وتجويع أهلها؟ بل كيف يذرف الساسة الأمريكيون دموع التماسيح على الضحايا في نيجيريا، بينما يبررون الجرائم في فلسطين؟ إن القضية، في حقيقتها، ليست دفاعا عن إنسانية ولا حماية لحقوق، بل أداة سياسية تستخدم حين تخدم المصالح، وتنسى حين لا تفيد واشنطن. إنها ازدواجية المعايير التي أفسدت المنظومة الدولية وأفقدت القانون الدولي روحه، وجعلت من المؤسسات الأممية مسرحا لعروض خطابية فارغة لا تتجاوز بيانات الشجب والإدانة.

وما نراه اليوم ليس مجرد غطرسة سياسية عابرة، بل انحراف بنيوي في العقل الأمريكي الحاكم، تغذيه نزعة استعمارية دفينة تتخفى وراء شعارات “الديمقراطية” و”الحرية”. فحين تسعى دولة تدعي قيادة العالم إلى استغلال مأساة دينية لتبرير تدخل عسكري في بلد إفريقي ذي سيادة، فإننا أمام ذهنية لا تؤمن إلا بمنطق السيطرة، ولا ترى في الآخر شريكا متكافئا بل تابعا أو رهينة. وما يثير القلق أن هذا السلوك لم يعد استثناء بل قاعدة في السياسة الأمريكية المعاصرة، حيث تتحول القوة العسكرية إلى وسيلة للابتزاز والهيمنة بدل أن تكون أداة لحماية السلام وردع العدوان.

ولعل ما جرى مؤخرا من محاولة الاستخبارات الأمريكية استقطاب أحد طياري الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في خطة لاختطافه أو تسليمه، يكشف مدى الانحدار الذي وصلت إليه الممارسات الأمريكية حين تستبدل احترام السيادة الوطنية بالبلطجة السياسية. أي منطق يبرر لدولة أن تختطف رئيسا منتخبا لدولة ذات سيادة؟ أليست هذه الممارسات هي ذاتها التي كان العالم يدينها في عصور الاستعمار؟ يبدو أن واشنطن اليوم تمارس الاستعمار ذاته بوجه جديد وأدوات ناعمة، مستغلة تفوقها العسكري والاقتصادي لفرض وصايتها على العالم، وكأن القانون الدولي خلق ليخدم مصالحها فقط.

واليوم، تعود النغمة ذاتها في التهديد الأمريكي بالتدخل في الشأن النيجيري “بحجة حماية المسيحيين”. والحقيقة أن واشنطن لا تدافع عن أحد، بل تسعى إلى فتح جبهة جديدة من النفوذ في إفريقيا لتطويق الصعود الصيني والروسي المتزايد، ولإعادة ترتيب أوراقها في قارة تزخر بالثروات الطبيعية والأسواق الواعدة. ولو كانت نواياها إنسانية خالصة، لأقامت تحالفا دوليا حقيقيا لدعم نيجيريا في مواجهة الإرهاب كما فعلت في حربها ضد تنظيم “داعش”، ولعملت على دعم الحكومة النيجيرية لا تجاوزها. بل إن معظم الدول الإسلامية كانت ستسارع إلى المشاركة في مثل هذا التحالف لو جاء بخطاب التعاون والشراكة، لا بخطاب التعالي والغطرسة.

غير أن واشنطن، منذ سنوات طويلة، فقدت لغة الاحترام واستبدلتها بلغة القوة والابتزاز. وما يردده ترامب ومن يسير على نهجه من شعارات “أمريكا أولا” لم يعد سوى قناع لشهوة الهيمنة ووسيلة لشرعنة الغطرسة. إنه منطق الإمبراطوريات المتغطرسة التي تظن أن العالم خلق لخدمتها وأن القانون الدولي وثيقة قابلة للتمزيق متى تعارضت مع مصالحها. لكن التاريخ علمنا أن كل قوة تتغطرس بلا رادع، تسقط حين تظن أن لا سقف لجبروتها.

إن ما يفعله ترامب وشلته اليوم هو دفع أمريكا نحو نفق مظلم من الانعزال الأخلاقي والسياسي. لم تعد ترى كقوة عظمى تحمي العالم، بل كقوة متسلطة فاقدة للبوصلة الأخلاقية. تحولت القيادة العالمية إلى عبء ثقيل على صورتها، وصار العالم يرى في واشنطن قوة تدمير أكثر منها قوة بناء أو سلام. فبدل أن تكون أمريكا منارة للأمل، صارت رمزا للهيمنة وازدواجية المعايير، تنشر الفوضى حيثما حلت ثم تبرر ذلك بخطاب بارد عن “الديمقراطية” و“حقوق الإنسان”.

اليوم تقف الولايات المتحدة أمام لحظة مفصلية في تاريخها: إما أن تعود إلى رشدها وتدرك أن القوة لا تقاس بعدد حاملات الطائرات بل بقدرتها على ترسيخ العدل واحترام القانون الدولي، وإما أن تستمر في جنون العظمة الذي بدأ يأكلها من الداخل، ويدفعها إلى صدام دائم مع العالم بأسره. لقد آن للعقل الأمريكي أن يقف مع نفسه لحظة صدق ويسأل: هل ما نفعله يجعل العالم أكثر أمنا؟ هل نحن فعلا حماة الحرية أم سراقها؟ هل نصنع السلام أم نصدر الفوضى؟ والجواب بات واضحا ومؤلما في آن: أمريكا اليوم ليست منارة للحرية، بل ظل قاتم لقيم تآكلت تحت أقدام المصالح.

العالم لا يحتاج إلى مزيد من الغطرسة ولا إلى أوصياء على القيم، بل إلى قادة يملكون ضميرا حيا قبل أن يملكوا جيوشا قوية. وحين تدرك واشنطن أن مكانتها لن تستعاد إلا بالعدل لا بالقهر، وبالاحترام لا بالإذلال، حينها فقط يمكنها أن تعود إلى ساحة التاريخ كقوة أخلاقية تحترم الآخرين بدل أن تتعالى عليهم. أما إن استمرت في نهجها الأهوج، فستكتشف — عاجلا لا آجلا — أن القوة بلا عدل هزيمة، والغطرسة بلا قيم انتحار سياسي وأخلاقي، وأن منطق “أمريكا أولا” قد يكون آخر ما تبقى من الحلم الأمريكي قبل سقوطه في هوة التاريخ.

بقلم : محمد سالم المختار الشيخ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى